الصراع الفكري، ومقولة "بلاش فلسفة "؟؟؟ "الحلقة الأولى"

بقلم: طلعت الصفدي

عندما يحتد النقاش بين مجموعة من المثقفين وليس المفكرين، حول أية قضية تهمهم ،خصوصا إذا كانت اجتماعية أو دينية أو علمية ،ويعجز نفر منهم عن متابعة النقاش جراء قدرة الآخرين على الجدل والإقناع، وسوق حجج وبراهين تصطدم مع مفاهيمهم ،فالصراخ يعلو في وجههم " بلاش فلسفة .. وزهقنا فلسفة" .. وهي تعبيرات توحي الازدراء من الفلسفة ،وكأن الفلسفة ثعبان ينفث سمومه وحقده ،أو جرذ ميت تنبعث روائحه العفنة والكريهة في كل مكان ،دون معرفة أن كل إنسان مهما كانت درجة تعليمه وخبراته وتجاربه حتى وان كان أميا ،يمتلك رؤية معينة للحياة والوجود ،ولكافة القضايا والمواضيع المختلفة ،إما بوعي نتاج العلم والمعرفة والتجربة والممارسة ،وإما بغير وعي تشكلت تحت تأثير ظروف حياته وواقعه ومحيطه ،وثقافة مجتمعه ،حيث تتحكم في سلوكه، وتحدد موقفه من كافة القضايا ،ويعبر عن رأيه في كل ما يجري في بلده وفي العالم من أحداث وتطورات وصراعات وحروب وكوارث وتطورات مختلفة،ولأن الإنسان كائن حي يعيش في مجتمع يتكون من طبقات وفئات اجتماعية مختلفة، فانه يتشرب عاداته وتقاليده وفلسفته من الوسط الذي يعيشه فلكل طبقة نظرتها الخاصة ومصالحها الخاصة.

وإذا كانت أية فلسفة هي نظرة شاملة للحياة والمجتمع ،سواء مصدرها ديني وغيبي ،أو من واقع اجتماعي – اقتصادي معرفي ،وسواء جاءت حصيلة قراءاته وخبراته ،أم جاءت نتاج تأثيرات سلطوية ،فكل إنسان له رؤيته الخاصة، ولا يمكن الحديث عن أي إنسان خال من رأي وفلسفة ،ولهذا لا يجب أن ينخدع الإنسان بشعارات الخوف من الفلسفة ،أو يستجيب لتشويهات وأضاليل بأنها تخرب العقل ،وتؤول إلى الزندقة والكفر كما يروجون ،ولهذا فالدعوات بالهروب منها ،وبلاش فلسفة تعكس عدم فهم لأهمية الفلسفة في حياة الإنسان ،ولدورها في تغيير الواقع وتعديل حركته في الاتجاه الإيجابي، وبما يخدم جماهير الشعب . والسؤال الصحيح الذي يحتاج لإجابة صحيحة، أي فلسفة تخدم البشرية وتنهي الحروب ،وتوقف استغلال الإنسان لأخيه الإنسان ،وتحترم حقوق الإنسان العامة والخاصة ،وتسلحه بمعارف وقوانين التطور والثورات الاجتماعية ؟؟ هل الفلسفة العلمية أم فلسفة الجهل والضلال ؟؟؟ .

هناك في المجتمع الطبقي ،ومع سيادة أنظمة الحكم الاستبدادية والأصولية ،فإنها في صراع مع المواطن الذي يبحث عن الحقيقة ،وتلاحق الأحزاب الثورية واليسارية التي تتبني الفكر التقدمي ،وتعطل تبنى الفلسفة التي تنير العقل وتساهم في المعرفة ،وتحل مشاكل المجتمع ،وتراقب وتمنع نشر الكتب التنويرية والفكرية والعلمية، وتحاول أن تغرق الأسواق بالفكر ألظلامي والمراجع الصفراء وتستخدم كل مؤسساتها لإجهاض أية محاولة للتخلص من الاستبداد والقهر ،وتعزز سلطتها وحكمها ،وتبرر اغتصاب عرق الغير ،ونتاج كدحه . تتنفس شهيقا وزفيرا من فسادها ،ولديها فلسفة ومؤسسات تحمي مواقعها ونفوذها ،ولهذا فهي من أنصار إشاعة خطورة فهم الفلسفة العلمية، وتحاول تشويه دورها ،واتهامها بالكفر والزندقة والإباحية ويحاربونها بكل الوسائل ويمنعون تدريسها في الجامعات والمعاهد التعليمية والتربوية ،ووضع سور بينها وبين الطبقات الفقيرة والمسحوقة التي تتعرض إلى التضليل،وتزييف الوعي ،وتستجير بمفكري فلسفة التخلف والرجعية والترويج لها ،لا يؤمنون بالتغيير وبقيمة الإنسان ،وكأن امتيازاتهم هي ربانية ،يحاولون فرض مناهجهم التي تمسخ العقل، وتعيق فهم التغيرات ،وترفع السلطات الحاكمة شعار " لا تفكر فالدولة تفكر عنك " . .

العلماء والفلاسفة قلة في التاريخ الإنساني . ومنذ وجود الإنسان على الأرض فهو يتفلسف ويعطي لنفسه الحق في محاولة تفسير كل الظواهر الكونية والاجتماعية والفكرية سواء علمية أم غيبية ،وباستخدام أدوات العلم والبحث والدراسة توصل إلى تفنيد بعضها ،والتمسك بأخرى ،فالفلسفة العلمية تلك التي تعتمد على منجزات العلم والمعرفة ،وتعتمد على تحليل قوانين التطور في الطبيعة والمجتمع والتفكير البشري ،وفهم قوانين الثورة الاجتماعية ،إنها الفلسفة التي تخدم مصالح الفقراء والشغيلة.. الخ .

لا يمكن أن ينخدع الإنسان بالكلام المعسول ،وبالوعود الكاذبة التي تتناقض مع الحياة والممارسة ،فالفلسفة غير العلمية تخدم مصالح الطبقات والفئات العليا في المجتمع ،ولهذا لا بد من البحث بروية عن الفلسفة التي تخدم المجتمع ،وتمنح الإنسان الفهم الواعي لما يجري من تبدلات في هذا الكون ،وتسلحه بأدوات المعرفة لمواجهة مصاعب الحياة ،وتنير له دروب الحياة ،وتدله على طرق البحث عن الحقيقة ،وفهم قوانين الحياة والثورة الاجتماعية لمواجهة الاحتلال والفكر ألظلامي الرجعي والنظام الرأسمالي الذي يقوم على الاستغلال والاضطهاد القومي والطبقي . إن الفلسفة العلمية تشكل السلاح الجبار لدى المناضلين الثوريين والمدافعين عن حقوق العمال والفقراء والمسحوقين، تنهي استغلال الإنسان لأخيه الإنسان، تسلح الجماهير المستضعفة استراتيجيا وتكتيكيا لمواجهة الظلم والاضطهاد والفساد والتبعية ،وتزودها ببوصلة الحياة والوجود وفهم الواقع ،وتساعدها على تغيير الواقع للأفضل لخدمة البشرية وتطهيرها من الحروب والاحتلال ،وسرقة دم وعرق الشغيلة ،الفلسفة التي تؤمن بالتغيير والحركة والتطور ،ودوام الحال من المحال . إن بذورها في الفكر الإنساني ،وفي التراث الإسلامي في مقدمتهم ابن سينا وابن خلدون والفارابي وابن رشد والكندي وابن باجه الأندلسي... الخ الذين أضاءوا عصور الظلام في أوربا ،وفجروا عصرا جديدا للنهضة الفكرية ،وأسسوا فروع المعرفة .والسؤال الذي يحتاج لإجابة ...لماذا يتقدم الغرب في كل فروع المعرفة والحياة ،وفي نفس الوقت تتراجع المجتمعات العربية والإسلامية؟؟؟. .

فهل بحثنا عن الفلسفة ،ومنهجها الذي يشكل الأداة لحل مشاكل المجتمع العربي الفكرية ،والسياسية والاجتماعية والاقتصادية والتربوية والفنية ،الفلسفة التي تساهم في إخراجه من حالة التخلف والجهل ،والصراعات الداخلية ؟؟ فالصراع الفكري يحتدم اليوم بين فلسفة العقل والتنوير والإبداع ،وبين فلسفة الجمود العقائدي والتطرف الديني ، فلسفة التخلف وخنق الإبداع وإغلاق الاجتهاد ومحاربته . فهل بعد هذا نسمح بالحديث عن الابتعاد عن الفلسفة العلمية ،واعتبارها جزءا من الهرطقة أم أن النقاش والحوار ربما يوصلنا إلى الحقيقة . فالشك هو المقدمة الأولى للوصول إلى اليقين. .

يتحول الصراع اليوم في المنطقة العربية والإسلامية ،من الصراع مع الاحتلال الإسرائيلي، الجسم الغريب المعادي للشعوب العربية والإسلامية إلى صراع مذهبي وطائفي وعرقي ،ومعها تتجسد المعارك الفكرية التي تحتاج لمفكرين وثوريين لمواجهة التخلف الفكري الرجعي ألظلامي التكفيري الإرهابي .وتبني الفكر الثوري وفلسفته العلمية فهو السلاح الأقوى في معركة التحرر الاجتماعي والديمقراطي، معركة تحرر الإنسان من الغيبيات والتفسيرات الأصولية الفاشية التي تصطدم بالواقع ،صراع بين فلسفة التنوير في مواجهة فلسفة الفكر ألظلامي والتخلف ،فهل ندافع عن الفلسفة التي تنتهك حقوق الإنسان ،وترفض التغيير من أجل سعادة الشعوب ،وتكفر هذا وتمنح الجنة لذاك ،وتستخدم القتل والدمار وتفجير الأسواق ودور العبادة والقتل بالجملة حتى للمصلين لفرض رؤاها الظلامية المنافية للعلم والمعرفة ، الفلسفة التي تبيح الاغتصاب تحت حجج نكاح الجهاد ،وتخطط لتقسيم كل دولة عربية إلى دويلات هزيلة خدمة للولايات المتحدة الأمريكية والعدو الإسرائيلي وبلدان الرجعية العربية والإسلامية في مقدمتها تركيا وقطر؟؟؟ أم مواجهتها فكريا واجتماعيا وجماهيريا ،لدحض كل محاولاتها لتزييف الواقع ،ومحاصرتها عبر المفكرين وأساتذة الجامعات وكافة مؤسسات التنمية الاجتماعية والإعلام والمتنورين من خريجي الأزهر الشريف ،والتصدي لكل محاولاتها تزوير التراث التقدمي في الثقافة الإسلامية والإنسانية والتي تتطلب الجرأة والتضحية... فلا توجد حقيقة دون شجاعة ،ولا توجد شجاعة دون فضيلة. .

 

بقلم/ طلعت الصفدي