نسيت تعب نهاري الذي كان طويلًا بشكل خاص وحافلًا في اللقاءات التي تخللتها بعض طقوس الوداع الخفيفة، كما في كل مرّة أنوي فيها السفر لقضاء إجازة برفقة بعض الأصدقاء، يحبون مثلي النجاتين والساكن في حي السيّدة ومن آثروا، قبله، زحلة وأبيضها والعرزال ووطا الدوار.
عدت إلى البيت وكأنني إنسان آخر، فلقد روّضت نفسي، بعد عقود من المعاناة الشديدة، أن أستقدم الرحلة بتغليف كل ما كان يشغل بالي بعوازل، تهيئ للفرح دروبًا وللراحة وسائد. أجلس في بحر من صمت وليل خفيف يتناقص وكأنه على ميعاد مع نجمة وحيدة بعيدة، فتركني أستقبل فجرًا ضاحكًا معه سنطير إلى بلاد الجاه الغابر والملح "والفادو"، يذكّر بدموع بحارة فقدوا عشيقاتهم في ليل تاه فيه الحب تحت كروم العنب، هناك عند منحدرات السماء وتبرها الأخضر المدلّى كأثداء تنتظر العشاق، والشعراء.
بدأت أتصفح عناوين صحيفة ستصدر في الصباح، وصلتني نسختها الألكترونية بعد منتصف الليل، فوقع نظري على ما رصدته عين محررها من "البوستات" المختارة ينقلها لقرّائه من حسابات أصحابها الشخصية، فقرأت، قبل غفوتي، ما سكبه قلب والد نصراويّ محب من وجع على مستقبل ابنه ناصحا: "لو استطعت أن تنهي دراستك وأن تبقى حيث أنت وأن تبحث عن مستقبلك في أي دولة تختارها فلن أغضب عليك ولن أعاتبك، لا بل بالعكس، سأكون سعيدًا لأن البلد لم يعد نفس البلد.. نحن كتب علينا أن نعيش هذا الحضيض، أمّا أنت فلست مجبرًا أن تعيش في هذه الأجواء المليئة بالحقد والطائفية وعدم الأمان.. البلد يا ابني لم يعد ذلك البلد الذي ربيتك أنت وأختك على حبه ومحبته ومحبة أهله وكل ذرة تراب من أرضه.. الناصرة اليوم أصبحت مقاطعات. في الناصرة اليوم لا أحد فيها يسألك عن شهاداتك وأخلاقك وعطائك.. يسألونك اليوم عن دينك..وفيها يجب أن تكون ممن يؤمنون بالعنف لكي تستطيع أن تعيش وتتعايش.. وأعرف أنك لن تستطيع. قتلوا أحلامنا.. أصبحنا كمن يعيش في غابة.. أنا باق هنا، وكُتب علي ذلك حتى آخر يوم في حياتي.. أما أنت.. فحدودك هي السماء ولا أريدك أن ترث هذه الأرض وترث أمراضها.. كن من تريد، كن ماذا تريد، وأينما تريد…". لم يغضبني الكلام، وصاحبه شخصية مرموقة لها مكانتها وتاريخها وماضيها في العمل البلدي والوطني، بل نمت كئيبًا وأنا أتساءل: كيف تضيع منّا ساحات البلد، وليس في الناصرة فقط، وتهاجر الأحلام منها إلى لا مكان؟
كنّا جالسين في قهوة "ماجيستك"، نتحلق فيها طاولة صغيرة، تتسّع لكثير من فرحنا وراحة بالنا، وبصعوبة لفناجين قهوتنا ولكاسات أفرغناها، كما يفعل الندمان، على مهل وبخفة وطرب. أمامنا يمتد شارع، صار نهرًا هادرًا من بشر. على مدخل القهوة يقف نادل يلبس بدلة سوداء نظيفة وتحتها قميص أبيض وبابيون أسود، يستقبل الروّاد وينظّم عملية إدخالهم كلّما فارق الطاولةَ روّادها. في الداخل عشرات الطاولات تستقبل ضيوفًا جددا، تودعهم وتعانق غيرهم، دون انقطاع، في قاعة تشبه قاعات القصور الفخمة الجميلة.
والحديث في الغربة حر طليق. فكنا نتساءل عن مواقفنا إذا طلب أحد أبنائنا منّا البقاء خارج الوطن من أجل العمل والعيش وسعادته، وأجمعنا، بشبه يقين، أننا لن نعترض على ذلك، لأننا نعرف أن البلد لم يعد ذلك البلد الذي أعززناه وبكيناه وأحببناه، ولم نعد نشعر بالأمان فيه على مستقبل أولادنا، وقبل أن نصحو من الوجع، بدأنا نسمع من بعيد صوت آلات موسيقية، كانت أعلاها دردبة أو قرع طبول، تجعلك تصغي لما يصاحبها من آلات وترية ونفخ على أنواعها. ثم بدأ الناس حولنا يتجمهرون على جنبات الشارع وكأنهم يشاهدون مشهدًا جميلًا، فعلى شفاه معظمهم ارتسمت بسمة وفي عيونهم فرح.
وقفنا ورأينا مسنّين يتصدران المسيرة، رجل وامرأة، ووراءهما يتتابع بضعة أزواج من المسنين والشباب، يلبسون ملابس ملّونة تقليدية، يحيّون بنظرات خفاف ضاحكة من وقف لمشاهدتهم. عندما تنتهي المجموعة الأولى تلحقها مجموعة من الأطفال الذين يبدون كأطفال من الجنة؛ جميلين، وعلى وجوههم بقايا قبلة من شمس ذلك الصباح، في عيونهم أثر لحلم جميل، والشفاه بلون الكرز، يلبسون ملابس تقليدية كالعصافير، جعلوني، عندما مرّوا أمامنا، أحس معنى الغبطة. سألنا من حولنا عن هذا الحدث، ومع صعوبة التفاهم، التقطنا أن مدينة "بورتو" تحتفل بيوم خاص، تكرّم فيه مسنيها، وهم، بدورهم، يحتفلون بالأطفال، في رسالة من الجميع عن معنى الحياة؛ كبار يرحلون في كرامة وسعادة وحب، وصغار يكبرون في أمان وسعادة وحب.
في ساحة قريبة توسطها مسرح،انتهت المسيرة، وبدأ الاحتفال/المهرجان. فرق من المسنين تستعرض مجموعات من الرقصات الفولكلورية الراقية. عشرات من الأزواج رقصوا على أنغام فرق تبادلت الأدوار، وعزفت لمن كانوا مرة أطفالًا وشبابًا، واليوم صاروا أعلى وأقرب إلى السماء، يتمايلون على موسيقى لا تهرم، وبعضهم يتقافز بشقاوة تطرب، وكان الأطفال دائمًا هناك، بعضهم يدبك وآخرون يغنون، في مشهد، ساهمت الملائكة، حتمًا، في إعداده وإخراجه، لتسعد من شاركوا، وليس أقل من حضر وشاهد وانتشى.
"أحسدهم"- قلت لرفاقي "ما أجمل حياتهم، يعرفون كم هي صعبة ويعانون مشاقها، لكنهم لا يتنازلون عن ساعة من سرور وأمل. الرقص عندهم رئة يتنفسون منها، وليس عارًا ورقص المسنات والمسنين معًا ليس بعيب، بل مدعاة لبهجة في كل البلد، فهل لدينا من يقبل ذلك ويمارسه؟" سألت.
أجابني صديقي، "ربما في لبنان، في بعض المناطق، قد نشهد ما يشبه ما يفعله البرتغاليون هنا"، وعدنا للحديث عن البلد وكيف تسرق البراءة والطمأنينة من ساحاته.
وكأننا لم نكن في أسبوع إجازة وراحة وفرح، فما أن سمعنا أننا على وشك الهبوط في مطار تل أبيب، تلبستنا حالة من قنوط وهمّ. على الطريق بدأت الأخبار تتساقط علينا كغبار البراكين، ففي البلد أطلق ملثم النار على شابين فقتلا وهم لم يحتفلا بعد بزفتيهما، وفي البلد طعنت فتاة في خاصرتها فماتت ليحمي دمها شرف البلد، وفي البلد منع فريق "وطن على وتر" من عرض مسرحيته كي تبقى سماء البلد نقية من كل ذنب ومعصية، وفي البلد تلغي بلدية سباقًا رياضيًا كان من المفروض أن يشارك فيه آلاف الشبان والشابات، فأُنقذت الرياضة من العار والشنار، وسلِم البلد!!
وصلت إلى بيتي وكأنني عائد من جبهة حرب ونسيت أين كنا.
في البيت تسألني زوجتي، وأولادي في حضني: هل أنت سعيد؟ فتذكرت وجع ذلك النصراوي الأصيل، فقلت: رحم الله الجاحظ، فقــــد أجاب، على لسان إعرابي مجرب حذق، حين سئل ما الغبطة؟ وقال: "هي الكـــــفاية، ومجلـــس الخلّان وحب الأوطان".. وأضفت، ولكن، يا أحبّائي، شرط تحقيق جميعها أن يكون عندنا ولنا بلد.. فمن يعــيد إلينا ساحات البلد؟
٭ كاتب فلسطيني
جواد بولس