كل تصرفات إسرائيل وسياساتها في معالجة القضية الفلسطينية، تؤكد أننا إزاء نموذج استعماري استيطاني عزَّ نظيره تاريخياً. نعرف أن الفلسطينيين لم يتمكنوا من دحر هذا النموذج، لكنه بدوره لا يستطيع الزعم بأنه أكره الفلسطينيين على رفع الراية البيضاء. ومع ذلك، فإنه يتعامل معهم وكأنه هزمهم تماماً، وليس أمامهم سوى الإذعان له والتصاغر لإملاءاته. نفهم ذلك من الإصرار الإسرائيلي الأحمق على تخلّي الفلسطينيين عن الوسائل الكفاحية كافة، المشروع منها قبل غير المشروع.
على رغم هذا التوجّه الاستقوائي، فإن الإسرائيليين يحسبون كل صيحة فلسطينية عليهم. ومع أن المقاطعة بأنماطها، تكاد تكون من أقدم الأدوات الكفاحية المدنية اللاعنفية، التي توسّل بها الفلسطينيون، في وجه احتلال إجرامي ممتد، إلا أن إسرائيل صعَّدت أخيراً مخاوفها وشكواها من هذه الأداة. الحق أن الخطاب الإسرائيلي الدولي عموماً، لم يغفل أهمية التصدّي للمقاطعة، فلسطينية كانت أم عربية أم إسلامية. ونجحت إسرائيل في تحقيق اختراقات في الطوق الذي سعى المقاطعون الى ضربه حولها. وهذا ما يفسّر استقبال منتجاتها ومشروعاتها ومداخلاتها الاقتصادية المالية والتجارية والعلمية، ونشاطاتها الاستخباراتية، ليس فقط في عالم الغرب الصديق والحليف، وإنما أيضاً في الدوائر الأفروآسيوية، سراً وعلانية. بل وهناك أسانيد ملموسة للزعم بأن هذه الاختراقات، نالت من المقاطعة والمقاطعين في دول عربية وإسلامية لا تعترف جهرة بإسرائيل. القصد أن مقاطعة إسرائيل لم تبلغ مرادها بالحجم اللائق، ولعلّها تعرّضت للتآكل والهجران، فما الذي جعل الإسرائيليين يستنفرون اليوم ضدها ويتناظرون حولها، ويعقدون في شأنها لقاءات طارئة في أعلى مستويات المسؤولية، كأجهزة الاستخبارات ولجان الكنيست ورئاسة الوزارة والمجلس الوزاري الأمني المصغر؟ وما الذي حملهم على وصفها بـ "الخطر الاستراتيجي الذي ينذر بنزع الشرعية عن إسرائيل"؟
السبب في تقديرنا أن خطاب المقاطعة الفلسطيني، راح يكتسب أرضية في الدول والمجتمعات الغربية، التي كانت محجوبة عنه ومغلقة أمامه، ومكتفية حتى التشبّع بالسياق الدعائي الأيديولوجي الصهيوني الإسرائيلي وحده بلا شريك. ولعلّ الأكثر استحثاثاً للتنمّر الإسرائيلي ضد المقاطعة، أن الخطاب الفلسطيني لم يعد مسموعاً ومفهوماً في الدوائر الغربية الأوروبية والأميركية الرسمية فقط، وإنما صار منساباً أيضاً إلى تضاعيف البنى التحتية المدنية الاجتماعية والاقتصادية، حيث الرأي العام المؤثر في صناعة القرار من أسفل. يشهد بذلك، توالي القناعة بمقاطعة إسرائيل من جانب جامعات ومعاهد عليا ومراكز أبحاث وشركات أعمال ومقاولات. ولنا أن نشير هنا، في شكل استثنائي، إلى استطراق هذه القوى من مقاطعة الاستيطان والمستوطنات بالمعنى الضيّق، إلى مقاطعة إسرائيل الدولة برمتها ومعاقبتها على استعمارها المديد لأراضي الدولة الفلسطينية، وممارساتها الطغيانية في حق الشعب الفلسطيني بعامة.
إلى ذلك، ربما تأبط الإسرائيليون شراً تجاه البعد الفلسطيني للمقاطعة، لأن الفلسطينيين لا يملكون في التحليل النهائي ما يساومون به أو يهددون. الأمر الذي يعني أن المستجيبين لندائهم في المجتمعات الغربية يفعلون ذلك من منطلقات أخلاقية وقناعات ذاتية تستشعر الظلامة الفلسطينية، بغض النظر عن المنافع والمضار التي قد يسبّبها لهم هذا الموقف التضامني.
يستطيع الإسرائيليون إقناع أنفسهم بأن مقاطعتهم من جانب القوى العربية والإسلامية أمر جائز، فهؤلاء الأخيرون ينتمون إلى "معسكر الأعداء وأشياعهم". لكن قراءتهم للمقاطعة الآخذة في التزايد من جانب الحلفاء والأصدقاء التاريخيين في عالم الغرب، لا بد أن تثير الذعر لديهم وتنذرهم بالأسوأ. هنا تصبح المقاطعة خطراً استراتيجياً بالفعل. وحين يستحضر الإسرائيليون تجربة نظام جنوب أفريقيا، يتحوّل هذا الخطر إلى هاجس مزعج لا يفارقهم. إنهم يدركون أن المحيط الإقليمي الأفريقي قاطع نظام بريتوريا لعشرات السنين بلا جدوى. فلما انضمت العواصم والشعوب الغربية إلى هذه المقاطعة، تصدّع هذا النظام إلى أن أسلم الروح بعد بضع سنين.
* كاتب فلسطيني