■ أثار تصويت الهند يوم 3 يوليو بـ"امتناع" على تقرير اللجنة الدولية المستقلة للتحقيق في الجرائم التي ارتكبت في حملة "الجرف الصامد"، التي شنتها إسرائيل ضد قطاع غزة صيف عام 2014، استهجان الكثيرين واستغراب عدد من الدول العربية والأجنبية لهذا الموقف الجديد لبلد كان يعتبر في مقدمة دول العالم في دعمه لقضايا الدول النامية، خاصة القضية الفلسطينية.
إسرائيل من جهتها رحبت بهذا الموقف الهندي الجديد الذي يعتبر "إنجازا كبيرا لا مثيل في العلاقات الهندية الإسرائيلية"، كما وصفته صحيفة "يديعوت أحرنوت". أصدرت الهند بيانا يؤكد أن موقفها لم يتغير من القضية الفلسطينية، فما كان من الرئيس الفلسطيني محمود عباس إلا أن قبل التفسير وأغلقت الصفحة، وكأن شيئا لم يكن، وكأن ذلك التصويت أمر عادي ولا يعبر عن انقلاب جذري في العلاقات العربية الهندية. والحقيقية أن هذا الموقف سابقة خطيرة ينذر بأن العلاقات الإسرائيلية الهندية تنامت كثيرا في العقدين الماضيين لدرجة أن حميميتها لم تعد سرا، وأن المقبل من المواقف أعظم، خاصة أن رئيس الوزراء الهندي ناريندرا مودي على أبواب زيارة تاريخية لإسرائيل، فقط للتوقيع على مجموعة اتفاقيات تجارية وعسكرية وأمنية وتقنية تتوج مرحلة التحالف الاستراتيجي بين البلدين في غياب عربي فاضح ومشين.
أول زيارة في تاريح الهند
يستعد رئيس وزراء الهند، ناريندرا مودي، لأول مرة منذ قيام دولة الهند الحديثة عام 1949 لزيارة إسرائيل، في وقت لم يحدد بعد، وما زالت تفاصيلها غامضة. وزيرة الخارجية الهندية، سوشما سواراج، أكدت الخبر بدون تحديد التاريخ، وقالت إنها ستسبق جولة رئيس الوزراء بجولة تقوم بها تشمل الأردن وإسرائيل وفلسطين المحتلة. كما أن صحيفة "إسرائيل تايمز" ذكرت أن الزيارة ستتم في بداية العام المقبل. وهذا ما أكده صحافي هندي يدعى موكيش كوشيك حيث نشر يوم 19 من يوليو خبرا مفاده أن مودي ينوي زيارة إسرائيل لتوقيع اتفاقية دفاعية تتويجا للعلاقات الإستراتيجية بين البلدين. والغريب كما يروي الصحافي أن الزيارة المتوقعة في بداية عام 2016 ستقتصر على إسرائيل، بدون التوقف في رام الله، حتى لو من باب رفع العتب، أو لواجب التحية والسلام وقراءة بعض الصلوات على روح العلاقة الاستراتيجية التي ترسخت لأكثر من 40 سنة أيام نهرو وأنديرا غاندي ومن تلاهما، إلى أن انهار الاتحاد السوفييتي وبدأت الدول تبحث عن مصالحها رامين بالأيديولوجيات وراء ظهورهم. لقد كانت إسرائيل من بين الدول الأكثر استفادة من ذلك الانهيار المدوي، ليس فقط بضخ مليون مهاجر روسي بحجة أنهم يهود، علما بأن الكثيرين منهم لا يعرفون عن اليهودية شيئا لأنهم تربوا ودرسوا وعملوا في نظام علماني لا مكان للدين فيه، بل لأن الحرب الباردة فتحت أسواق أوروبا الشرقية وخبراتها لإسرائيل، وأصبح المرور إلى قلب أمريكا يمر عبر تل أبيب.
الهند من الدول التي غيرت تحالفاتها بشكل جذري بعد الحرب الباردة. لقد كانت حليفا إستراتيجيا لموسكو مقابل التصاق عدوها ومنافسها التاريخي باكستان بسياسات واشنطن. بعد الحرب الباردة وانتشار ظاهرة التطرف الإسلامي التي اختمرت في أرض باكستان خلال الاحتلال السوفييتي لأفغانستان واكتواء الهند بشيء من ألسنة الإرهاب في بومبي وغيرها، وجدت في إسرائيل ضالتها المنشودة، خاصة في عهد مودي المعجب بإسرائيل، حيث زارها عندما كان وزيرا رئيسيا عن ولاية غوجرات بين عامي 2001 و 2007 كما أنه التقى رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو على هامش دورة الجمعية العامة عام 2014.
تطور العلاقات الإسرائيلية الهندية
هناك ثلاث ظواهر تجمع الهند وإسرائيل، كلا البلدين يمتلك الأسلحة النووية، الهند بطريقة علنية وإسرائيل بطريق أقرب إلى العلنية، بدون الإفصاح الرسمي عنها. وكلا البلدين ظلا خارج إطار اتفاقية حظر الانتشار النووي. وكلا البلدين يحتلان أرضا ليست لهما، فكشمير اغتصبتها الهند بدون أدنى وجه حق، رغم قرار مجلس الأمن رقم 47 لعام 1948 بإجراء استفتاء يقرر مصير السكان الأصليين، لكن الهند رفضت إجراء الاستفتاء لغاية الآن، وما زالت بعثة الأمم المتحدة للرقابة موجودة هناك منذ عام 1949. وإسرائيل على الأقل في نظر العالم والشرعية الدولية والقرارات المتعاقبة، تحتل أرضا ليست لها وتضطهد شعبا واقعا تحت الاحتلال وتعمل على اقتلاعه من أرض آبائه وأجداده. والظاهرة الثالثة وجود عدو تاريخي وأساسي على حدود البلد، يخالفه في العقيدة والثقافة والانتماء والتطلعات. فباكستان عدو إستراتيجي للهند، وكان العرب بشكل عام وفلسطين بشكل خاص العدو الاستراتيجي لإسرائيل. لذلك كانت الدول العربية في مجملها، ما عدا بعض دول الخليج، أقرب إلى الهند أثناء الحرب الباردة لمواقفها المعادية للإمبريالية والصهيونية ولقيادتها لحركة عدم الانحياز. فيما مضى كان العرب كأمة يقفون ضد الكيان ويحددون علاقاتهم مع الدول حسب مواقفها من إسرائيل. لكن هذه المعادلة تغيرت أيضا بعد انفراط العقد العربي بتوقيع اتفاقية كامب ديفيد المشؤومة التي شتت الأمة وبعثرت جهود المقاطعة الإسرائيلية، وكرت بعدها مسبحة الاعتراف بإسرائيل وإقامة علاقات معها، ما فتح الباب واسعا لدول كثيرة كانت تتحفظ على إقامة علاقات مع إسرائيل ففعلت ذلك في أوائل التسعينيات، ومنها الهند وإسبانيا واليونان.
اعترفت الهند رسميا بإسرائيل عام 1992 ومنذ اليوم الأول بدأت تنسج إسرائيل أوثق العلاقات مع الهند، وبادلتها الهند ودا بود، بل زادت عليها بطلب المساعدة في كيفية التصدي للجماعات الإسلامية المتطرفة في كشمير وغيرها، خاصة بعد هزيمة حزب المؤتمر في الانتخابات ووصول أحزاب يمينية متعصبة للعرق الهندي والديانة الهندوسية عام 1998، مثل حزب بهارتيا جاناتا الذي يقوده مودي، التي ترى في الإسلام عنصر صراع داخل الهند وترى في المسلمين عامل تفتيت للوحدة الداخلية، بالضبط كما تنظر إسرائيل إلى الفلسطينيين الذين مكثوا في ديارهم الأصلية ولم يغادروها إلى المنافي وأصبحوا أقلية في أرضهم وغرباء في وطنهم.
تتسم العلاقات بين البلدين بتصاعدها المطرد، خاصة في مجال التجارة العسكرية وتبادل الخبرات والإنتاج المشترك لعدد من الأسلحة المتطورة والطائرات والتدريب والمناورات. فقد وضعت الهند تحت تصرف إسرائيل منظومة الأسلحة السوفييتية مثل الميغ والسوخوي، ووضعت إسرائيل تحت تصرف الهند ما لديها من ترسانات أمريكية ومحلية، خاصة في مجال المطاردة وضبط الحدود وإنقاذ الرهائن والتدخل السريع والطائرات بدون طيار وأجهزة التنصت ومنظومات الدفاع المضادة للصواريخ والقطع البحرية. ويعتقد كثير من المراقبين والمحللين أن هناك أيضا تعاونا سريا في مجال الأسلحة النووية، رغم نفي الطرفين لمثل هذا التعاون. لقد ارتفعت قيمة التبادل التجاري بين البلدين من 200 مليون دولار في منتصف التسعينيات إلى ما يزيد عن المليار دولار الآن. كما ارتفعت قيمة الاستثمارات الإسرائيلية في الهند بالنسبة نفسها كذلك. وقد استغلت إسرائيل العلاقة لصالحها، خاصة كسر حاجز العزلة في محيطها العربي لتجد مجالا واسعا في المحيط الهندي وقرب السواحل الإيرانية من الشرق، وعلى مقربة من الصين التي ما تزال تمثل القوة الأعظم في شرق آسيا وليست منضوية تحت الجناح الأمريكي. ولا عجب أن نعرف أن الولايات المتحدة ما فتئت تشجع تطوير العلاقات بين إسرائيل والهند لتلك الأسباب، خاصة في موضوع مراقبة الصين والتجسس عليها ورصد تحركاتها ودفع الهند لتكون دولة منافسة للصين في المستقبل.
مخاطر العلاقات الهندية الإسرائيلية على العرب
من العوامل الإيجابية التي شكلها التدخل الإيراني في المنطقة العربية أن عادت بعض الدول العربية التي حاربت التيارات القومية والعروبية إلى اكتشاف العروبة مرة أخرى والتمسك أكثر بالهوية العربية، ولو أن هذا التمسك قد يكون تكتيكيا ولفترة وجيزة. وما يجري اليوم من التقارب الهندي الإسرائيلي في كافة المجالات قد يدعو الدول العربية إلى إعادة تعريف نفسها كأمة واحدة والابتعاد عن التقسيم الطائفي والمذهبي والعرقي، وبدلا من ذلك تسعى إلى تعميق المواطنة المتساوية بين كافة أبناء الوطن وفتح المجالات لأبناء العروبة للسفر والعمل والزيارة بدون قيود أو بقيود مخففة. إذ أن معظم الأنظمة العربية ما زال إلى الآن يفرش السجاد الأحمر للأجنبي ويشعر أمامه بدونية واضحة ويقيم كافة السدود والعراقيل أمام إخوتهم العرب بل ويذيقهم أقسى أنواع المعاملات في المطارات وعلى الحدود ويتصرف معهم بفوقية رعناء.
لقد دخلت الهند مع إسرائيل في تطوير العديد من المشاريع ليس في المجال العسكري والأمني فحسب، بل وفي مجالات الزراعة والمياة ومحاربة التصحر والهندسة والمياه الجوفية. فكما هو معروف فإسرائيل تعج بمثل هذه الخبرات التي وصلت مع المهاجرين الروس وغيرهم من أوروبا الشرقية.
إن تمتين العلاقة بين الهند وإسرائيل سيكون بالتأكيد على حساب الدول العربية التي ينظر إليها على أنها سوق استهلاك واستقبال للخدم وعمال السخرة فقط. وهذه العلاقة المتينة ستفتح المجال أمام إسرائيل لتفك حاجز العزلة وتوغل في تجارتها وخبراتها العسكرية في مجال حيوي واسع لا حدود له وستزداد إسرائيل عنجهية ورعونة في التعامل مع الملف الفلسطيني والعرب على حالهم المزري هذا. فكيف ستحترم الهند العرب وهم بهذه الصورة المزرية وفي سلم التخلف في مجالات العلوم والتكنولوجيا والاختراعات ودور البحث ومراكز التخطيط والدراسات الاستراتيجية والعلمية. يتسابق أغنياؤهم في بناء الأبراج والمساجد الفارهة والقنوات الفضائية ولا يقيمون مصنعا واحدا ينتج المسابح وسجاد الصلاة والدشاديش.
إن استناد إسرائيل لحائط منيع مثل الهند في الشرق والولايات المتحدة وكندا في الغرب سيضعها في موقف أقوى للإفلات من المساءلة في المحاكم الدولية ويدفعها للتعنت أكثر في موضوع تقديم أي تنازلات للفلسطينيين، بل سيجعلها تسارع في عملية تهويد القدس وتوسيع حركة الاستيطان ومصادرة الأراضي برعونة فظة غير آبهة بأمة تتبعثر وسلطة فلسطينية تتهاوى ومحيط عربي يعادي الفلسطينيين أكثر مما يعادي إسرائيل.
كان الله بعون الأجيال العربية القادمة، الذين سيصل عددهم عام 2050 نحو700 مليون، 65 بالمئة منهم دون سن الثلاثين. فهل سيجدون لهم مكانا بين الأمم يليق بتاريخ هذه الأمة العريقة التي أسلمها الغزاة إلى حكامها فدمروا ما تبقى منها وأفرغوها من أي محتوى حضاري لتنافس فيه دولة عظمى مثل الهند ودولة مسخا مثل إسرائيل.
٭ محاضر في مركز دراسات الشرق الأوسط في جامعة رتغرز بنيوجرزي
د.عبد الحميد صيام