تشهد قطاع غزة نمواً وانتشاراً واسعاً لعمل منظمات المجتمع المدني أل N.G.O.S سواء المنظمات المحلية والتي يبلغ عددها زهاء 1000 جمعية والدولية التي تبلغ 100 جمعية , لقد نمت تلك الظاهرة في السنوات الأخيرة كضرورة للتخفيف من حدة المشكلات التي يعاني منها المجتمع الغزي وتحديداً في ظل الحصار الإسرائيلي المفروض على قطاع غزة منذ يناير 2006 على أثر فوز حركة المقاومة الإسلامية حماس في انتخابات المجلس التشريعي في دورته الثانية وتشكيلها للحكومة الفلسطينية, حصاراً شلل قطاعات الاقتصاد في قطاع غزة وأدي لتفاقم المشكلات الاقتصادية والاجتماعية مقابل مكاسب كبيرة لحفنة من القائمين على العمل الإنساني والذين يزدادوا غني وثراء بسبب عملهم في قطاع غزة الذي يشهد اضطرابات أمنية وسياسية مستمرة, ومن تلك الوسائل التي تؤدي للثراء بالنسبة لكبار موظفي أل N.G.O.S هي بدل المخاطر , إن تزايد تلك المنظمات لم يساهم في خفض معدلات الفقر والحرمان في قطاع غزة ولم يساهم في رفع معدلات التنمية الاقتصادية رغم ضخامة ما تنفقه تلك المنظمات فعلياً في قطاع غزة, ويعود ذلك إلى أن جزء كبير من قنوات التمويل وتصل أحيانا إلى 25% من قيمة المبالغ؛ تذهب للاستشارات ودراسات الجدوى و إعداد مقترحات المشاريع إضافة للرواتب الضخمة لبعض مدراء تلك المؤسسات والتي بلغت وفقاً لبعض التقارير الحقوقية في غزة حوالي 10 آلاف دولار أمريكي للشهر الواحد ( أي 100 ضعف دخل الأسر الفقيرة والأكثر حرماناً في غزة والتي تتقاضى شهرياً 100 دولار من وزارة الشؤون الاجتماعية , أو فيما يعرف بشيكات الحماية الاجتماعية والتي تتراوح من 450-200 دولار كل ثلاثة أو أربعة شهور), وتتداخل أنشطة تلك الجمعيات لتغطي كافة مناحي الحياة رغم تركيزها على أنشطة غير تنموية كدعم الأطفال والدعم النفسي والتأهيل وتمكين المرأة وحماية الطفولة إضافة لتوزيع الإغاثة العاجلة للأسر الفقيرة والمهمشة وغيرها من المجالات سواء بالتعليم أو الصحة والخدمات ,ونظراً لدورها الكبير وقدرتها على التغلغل ومزاحمة الحكومة وتحديدا في غزة فهي اليوم تعتبر بالإضافة إلى بعض المؤسسات المالية والاقتصادية؛ السلطة الخامسة في الأراضي الفلسطينية , ومع مرور الوقت أصبحت تلك الجمعيات ممالك للشخوص الذين يديرونها والذين يمثلون بشكل أو بآخر أهداف الدول التي تقدم الدعم لهم فسياسة أي مؤسسة مجتمعية لا بد وأن تتوافق بشكل أو بأخر مع سياسة المانح ومن يقدم التمويل , فكأن تلك المنظمات معالم وسفارات ومكاتب تمثيل دبلوماسي لتلك الدول, شخوص يزيدوا قوة ونفوذا في القطاع ويمولون مشاريع بملايين الدولار وبموازنات تفوق موازنات الحكومة في غزة ؛ ورغم ذلك فالفقر والجوع سيد الموقف حيث لا عزاء للفقراء, شخوص لديهم القدرة على التغلغل في الإعلام والسياسة والاقتصاد ونفوذا قوي في كبرى العائلات في غزة, وعند متابعة أهداف ورؤى تلك المنظمات نجد أنها تضع خطوطا وسياسات عامة وعلى أرض الواقع تتفاجئ بعدم وجود تغيرات ملموسة في واقع الأسر الفلسطينية في قطاع غزة, وهذا ما تؤكده الإحصائيات الرسمية إلى أنه وعلى الرغم من تزايد أنشطة منظمات المجتمع المدني في غزة إلا أن 80% من سكان غزة لا زالوا يعتمدون على المنح والمساعدات الإغائية و89 % من العائلات في غزة تواجه صعوبات في توفير احتياجاتها الأساسية , و نحو 70% من سكان قطاع غزة يعانون من انعدام أو سوء الأمن الغذائي،وفي سياق آخر تهدف تلك المنظمات لتكثيف مساعداتها الإغاثية بوتيرة سريعة في غزة دون أ ي اهتمام بالبعد التنموي للمصاريف الكبيرة التي تُنفق , وإن قدمت مقترحات لمشاريع تنموية فهي مشاريع متناهية الصغر ولا تدر دخلاً كافياً ومصيرها الفشل وهذا ما يحدث فعلا مع فشل مئات المشاريع الصغيرة جداً المقدمة من قبل تلك المنظمات للشرائح الفقيرة, قد يتساءل الكثيرون لماذا تتزايد منظمات المجتمع المدني وفي المقابل ترتفع نسب الفقر والبطالة في أوساط الأسر والشباب في قطاع غزة, يمكن اعتبار أن السبب في ذلك يعود إلى أن الهدف الأول والأوحد للقائمين على تلك المؤسسات هو تحقيق أقصى منفعة خاصة بغض النظر عن البعد المجتمعي لأي مشروع أو تمويل مقدم, فإذا كان الهدف الرئيسي فعلا القضاء على معضلة الفقر وتقليل درجة الحرمان في قطاع غزة فلن نجد جمعية واحدة وستغلق أبوابها جميعاً, لأن هدفها الرئيسي هو إلغاء هذه الحكمة الصينية لفيلسوف الصين العظيم كونفوشيوس من قواميس التنمية الاقتصادية الفلسطينية " لا تعطيني كل يوم سمكة , لكن علمني كيف أصطاد", حيث أن التمويل الدولي والعربي للسلطة الفلسطينية ولمنظمات المجتمع المدني لا زال يشترط قنوات محددة في الغالب هي تمويل أنشطة اغاثية وليست إنتاجية , لتعميم ثقافة الاعتماد على المساعدات والاستمرار في مأسسة القضية لتصبح قضية إنسانية شبه بحتة, فمثلاً قدم أحد القائمين على منظمات المجتمع المدني مقترح مالي لتمويل بناء مصنع لإنتاج بعض المنتجات المحلية والذي يهدف لتوفير فرص عمل لعشرات العاطلين عن العمل, فردت الجهة المانحة : مستعدون أن ندفع لكم مليار دولار على شكل مساعدات اغاثية , ولن ندفع لكم 100 ألف دولار لبناء مصنع", هذا المثال هو نموذج حي للأهداف التي تسعى إليها منظمات المجتمع المدني وهي تعميم ثقافة الاعتماد على المساعدة والتي تكفي لليوم دون التفكير بالغد, وما ينطبق على المؤسسات الدولية والمحلية ينطبق على موازنات السلطة الفلسطينية حيث أن المنح والمساعدات يتم توجيهها لقنوات غير إنتاجية ولتمويل عجز الموازنة, وإن ما تقدمه أوروبا من مبالغ لتمويل موازنة السلطة الفلسطينية هي عبارة عن جباية ضريبية يتحملها دافعي الضرائب في أوروبا ؛ أي أن فقراء وكادحين وعمال أوروبا يدفعون جزء من رفاهيتهم لتمويل رواتب السلطة الفلسطينية والتي تعاني من ارتفاع كبير في الإنفاق والعجز , وعدم العدالة أحيانا حيث أن نسبة كبيرة من العاملين في الجهاز الحكومي هم من الفقراء, في حين أن هناك حد أدنى للرواتب والأجور غير مطبق رغم أهميته, وعدم وجود حد أقصى للرواتب والأجور رغم أولوية ذلك في تقليل التفاوت المتنامي بين الشرائح المجتمعية والتي تميل لدرجات من اللا مساواة واللا إنسانية, تلك المعادلة مهينة والتي تعني أن وزراء ونواب وكبار المدراء والموظفين في الأراضي الفلسطينية يغتنوا على حساب دافعي الضرائب في الغرب, مقابل مجتمع فقير ويزداد فقراً مقابل ثراء فاحش لعدد محدود والسبب اقتناصهم للفرص باستمرار وصعودهم لأعلى درجات الرفاه على حساب الفقراء ( الحلقة الأضعف في قطاع غزة), وفي الختام فإن الحقيقة التي غابت عن عمل السلطة والحكومات الفلسطينية, وعن السلطة الخامسة ( N.G.O.S) في قطاع غزة, هو تدشين مشاريع تنموية تحد من معضلات الاقتصاد وتزيد من معدل نموه, رغم وجود إمكانيات لذلك ولو بشكل محدود خلال سنوات سابقة, وهي إنشاء مناطق صناعية في كل محافظة من محافظات الوطن أو بناء مدينة زراعية متخصصة لتوفير سلة الغذاء في غزة وتوفير الاكتفاء الذاتي من بعض السلع والمنتجات, ومدينة صحية وتعليمية حديثة للرقي بمستويات الصحة والتعليم كأهم روافد التنمية الاقتصادية , ودعم قطاعي الزراعة والصناعة وتمويل المشاريع الصغيرة رغم أنها تشكل حلاً فردياً للفقر, إلا أنها لا زالت تتناسب مع الواقع الفلسطيني وتحديداً الغزي الأكثر تعقيداً , وكذلك إقامة بنك للفقراء وبتمويل ذاتي وهي فكرة ممكن تنفيذها بغزة التي تمتلك ودائع بالبنوك المحلية تستطيع تمويل أنشطة ومجالات هذا البنك التنموية.
بقلم/ حسن عطا الرضيع
باحث اقتصادي_غزة