القدس رايتنا!

بقلم: محمد سيف الدولة

في الحروب القديمة، كان لكل جيش راية يحملها مقاتل شجاع، يتم انتقاءه بعناية. مهمته الوحيدة هي الإبقاء عليها مرفوعة مرفرفة على الدوام. وكانوا يُكلفونه بالصمود حتى اللحظة الأخيرة مهما كانت الصعاب أو اشتد الكر والفر أو حمي وطيس المعركة. وأن يكون آخر المتراجعين أو المنسحبين، وأن يُحاول إن جُرح أو ضُرب في مقتل، أن يرفع الراية حتى آخر نفس.

وذلك لأن الرايـة هي دليل المقاتلين، ومؤشـر سـير المعركـة، من نصر أو هزيمـة أو سـقوط. لقد كان لها ذات الدور الذي تقوم به اليوم البيانات العسكرية وأجهزة الإعلام وإدارات الشؤون المعنوية.

***

والقدس بهذا المعنى البسـيط، هي رايتنا كعرب ومسـلمين ومسـيحيين، وسـقوطها يختلف عن سـقوط غيرها من المدن العربيـة، كحيفا وغزة ورام الله وبغداد؛ فسـقوطها يعني سـقوط حامل الرايـة، الذي مات أو اسـتُشـهد أو انكسـر أو جبُن عن أن يحمل رايتـه ورمز أمتـه...

فالحروب الصليبية التي دارت معاركها من 1096 حتى 1291، شاهدت سقوط عديد من المدن والإمارات العربية والإسلامية في يد الغزاة، ولكن كان لسـقوط القدس عام 1099 دوياً أليما، وكأنها عاصمـة الأمـة.

وكذلك شاهدت نفس هذه الفترة انتصارات ومعارك تحرير عربية إسلامية كثيرة فى عهود عماد الدين زنكي، ونور الدين محمود، والناصر داوود الأيوبي، والظاهر بيبرس، والمنصور قلاوون... ولكن كان لتحرير القدس على يد جيـش صلاح الدين عام 1187 وقعاً مختلفاً ودلالـة تاريخيـة فارقـة.

وعندما مات صلاح الدين، كان لا يزال هناك عدداً من الإمارات الصليبية في أراضينا، ولكن معركة حطين كانت هي الضربة القاصمة التي توالى بعدها انهيار المشروع الصليبي بأكمله.

* * *

لماذا للقدس هذه المنزلة؟

أولاً ـــــ لما لها من قُدسية خاصة منذ أسرى الله سبحانه وتعالى بالرسول عليه الصلاة والسلام  إلى المسجد الأقصى. وهو الرسول الذي مثَّلت رسالته، نقطة تحول كبيرة فى تاريخ هذه المنطقة؛ فبها أسلمنا وتعربنا، وخرجت إلى الحياة أمتنا العربية الواحدة، الأمة الوليدة الجديدة، التي كانت لقرون طويلة، واحدة من القوى الكبرى في العالم.

***

وثانياً ـــــ لأن القدس هي البوابة التي كان المعتدون على مر التاريخ سواءً من "الصليبيين" أو الصهاينة، يحاولون الولوج منها إلى أوطاننا، بذرائع دينية كاذبة.

فهي أرض المسيح التي يجب تحريرها من العرب "الكفرة"، وفقاً لخطبة البابا أربان الثاني في جنوب فرنسا عام 1095 م.... وهي الأرض المقدسة لليهود، التي ذُكرت في التوراة أكثر من 600 مرة، وفيها هيكلهم المزعوم، والتي احتلها "الغُزاة العرب المسلمون" على امتداد 14 قرناً، حسب فتاوى الحاخامات والقادة الصهاينة المعاصرين... فجميع الغُزاة، استخدموا القدس لاختلاق مشروعية دينية مقدسة لغزواتهم، علهم ينجحون بذلك في انتزاع مشروعية قومية، مشروعية لاغتصاب أوطاننا والبقاء فيها..!!

وكان رد أسلافنا على مر التاريخ، هو القتال لطرد الغُزاة وتحرير الأرض المغتصبة، انطلاقاً من الحقيقة التاريخية الموضوعية، وهي أن هذه أرضنا نحن، التي تعربت وتعربنا معها منذ الفتح الإسلامي، وعشنا فيها واستقررنا عليها قروناً طويلة، ولم نُغادرها أبداً منذ ذلك الحين، فاختصصنا بها دونا عن غيرنا من الشعوب والأمم.

 أما المقدسات الدينية فإنها لا تُعطي وحدها، أهل هذا الدين أو ذاك، أي حق في امتلاك الأرض التى تحتضن مقدساتهم. فالأمم ليسـت مقدسـات فقط، وإنما هي أيضاً شـعب وأرض وتاريخ طويل ولغـة واحدة وحضارة متميزة ولا نقول ممتازة.

***

وهكذا كانت القدس على الدوام رمزاً لنا جميعاً؛ رمزاً للإسلام وللعروبة ولأرض الرسالات السماوية، وللوحدة الوطنية لمسلميها ومسيحييها، إنها رمزاً لهويتنا الجامعة الشاملة، وهي هوية صادقة، وحقيقة موضوعية ثابتة تاريخياً.

ولكنها كانت في ذات الوقت رمزاً كاذباً ومختلقاً ومسـروقاً للصهاينـة ومن قبلهم الغُزاة الأوروبيين المتذرعين زوراً بحمايـة الصليب.

***

ـــــ وبالتالي فإن لحماية القدس من السقوط، الأولوية دائماً، لأن حمايتها تُمثل حائط صد ضد تحصين الاغتصاب الصهيوني بمشروعية دينية زائفة.

ـــــ ولأن الدفاع عنها هو دفاع عن اختصاصنا التاريخي بكل أرض فلسطين التاريخية.

ـــــ ولأنها قضية لا يملك أحدا في السلطة الفلسطينية أو غيرها أن يدعي اختصاصه وانفراده بها، فهي قضية كل العرب والمسلمين، وليست قضية فلسطينية فقط، وهو ما يستدعي من ناحية أخرى إخراجها من أجندة المفاوضات العبثية بين السلطة والصهاينة.

ـــــ ولأنها قادرة برمزيتها المقدسة، على تعبئة جماهيرنا في كل مكان للاشتباك مع العدو الصهيوني، فهي البوابة الأرحب لهذه المهمة.

ـــــ وأخيراً وليس آخراً، لأنها قضية مُلحة وعاجلة، حيث يقوم العدو الآن بتصعيد وتكثيف العدوان عليها، لهضمها وابتلاعها في أقرب وقت.

***

التهويد قديم:

ومسـلسـل اغتصاب القدس وتهويدها قديم؛ بدأ منذ بدايات الإنتداب البريطاني على فلسـطين عام 1922، عندما تركزت الهجرات اليهوديـة الوافدة، غرب المدينـة القديمـة، لتكون نواة لما يُسـمونـه الآن بالقدس الغربيـة، التي اغتصبوها عام 1948 ضمن ما تم اغتصابـه من فلسـطين، وقيام الصهاينـة بطرد ما يقرب من 60 ألف عربي منها. ثم جاء احتلال ما تبقى من فلسـطين عام 1967، وما تلاه عام 1980 من ضم القدس الشـرقيـة إلى الغربيـة تحت اسـم القدس الموحدة "عاصمـة لدولـة الكيان". لتتابع الاعتداءات ببناء أحزمـة من المسـتوطنات لحصار المدينـة القديمـة من الشـرق لعزلها عن محيطها العربي، والحيلولـة دون امتدادها وتوسـعها شـرقاً، لوأدِ أي مشـروع لاسـترداد القدس الشـرقيـة في أي مفاوضات مسـتقبليـة. وذلك مع زرع أكبر عدد من المسـتوطنين الصهاينـة في القدس الشـرقيـة ليبلغ عددهم فيها الآن نحو 200 ألف مسـتوطن، ويبلغ عددهم في القدس الموحدة، شـرقيـة وغربيـة 500 ألف يهودي..!!

***

ولنتذكر معاً أن جملة عدد اليهود في كل فلسطين عام 1917 لم يتعدَ 60 ألف، وهو ما جعلهم يكتفون بطلب حق إقامة "وطن قومي" لهم هناك، ولكن عام 1947 عندما بلغ عددهم 650 ألف، كان عندهم الشجاعة والجرأة أن يُطالبوا "بدولة" وليس مجرد "وطن"، وهو ما أخذوه بالفعل من هيئة الأمم المتحدة فيما سُمي "بقرار التقسـيم".

ولكن بلغ عددهم الآن كما أسلفنا نصف مليون يهودي في القدس وحدها. فلنا أن نتصور حجم المشكلة وعمق التهويد الذي تم هناك. والذي يستكملونه على قدم وساق بالتربص بالمسجد الأقصى وإزالة منازل أهالينا المقدسيين وغيرها من الإجراءات اليومية التي كادت أن تنجح في التهويد الكامل لمدينتنا المقدسة، وآخرها مخطط التقسـيم الزماني للمسـجد الأقصى..!!

***

والراية على وشك السقوط:

وطوال هذه العقود، لم تتوقف مقاومتنا للمشروع الصهيوني عامة، ولتهويد القدس على وجه الخصوص؛ فمنذ ثورة البُراق في أغسطس 1929 وإعدام قادتها الثلاثة الشهداء عطا الوزير ومحمد جمجوم وفؤاد حجازي فى سجن عكا في 17 يونيو 1930، مروراً بانتفاضة سبتمبر 2000، وما تلاها من صمود ومقاومة بطولية، يُمارسها شعبنا الأعزل هناك يومياً، في مواجهة زبانية الصهاينة وآلاتهم العسكرية، والتواطؤ الدولي والصمت العربي.

إن أبطالنا المقدسـيين المرابطين والمرابطات، يلتزمون بوصايا الأجداد؛ فهم لا يزالون يحملوا الرايـة، ويحفظونها من السـقوط بما تبقى لهم من طاقـة. ولكن جروحهم أُثخنت، وهم في انتظار مدد يشـد من أزرهم، ويحمي الرايـة التي كادت أن تسـقط، فهل من مجيب..!!؟؟

*****

محمد سيف الدولة

[email protected]