…إلى الشهيد الرضيع علي دوابشة…
يا أم عليّ !
يا رحم الوطن الوردي المشعوط بحقد المسخ الجبان!
اصرخي حتى يتزلزل الكون، ووجّهي صراخك للدنيا، فهي كهف الخرافات الذي يمتصّ كلّ الرعود وتأوب إليها كل الأصداء. اصرخي حتى يتشقّف صخر الجبال ويتمزّع وجه الجرود ويتطاير البحر قطعاً في كل مكان.اصرخي إلى أن تذوي كل الأصوات وتنوس ألسنة الخلائق وتخرس نداءات الإنفعال. اصرخي لتنفخت آذان المنصتين وتنعقد ألسنة الحكّائين.اصرخي حتى يسمع سكان السماوات رجّة الصدى، واصرخي حتى لا يجوح أو يبكي أو ينادي من له فم وأشداق، اصرخي فإن هذا العالم لا يرى ولا يتكلم ولا يسمع إلا ما يريد، فليسمع ما نريد.
كم مرّة حرقوا أم الرضيع المُتَرّمّد ؟ وأي شيء سيسعف قلبها المسلوق بجحيم الوحوش ؟ وهل ثابَتْ إلى رشدها لتعلم أن صغيرها قد أطفأ اللهبُ غرغرةَ الحليب في زرّ فمه ؟ وكيف سيمدّ أبوه الذراعين ليتلقّف بتلات الملاك، فلا يجد سوى والهواء الثقيل ؟
يا مليون شاهد في كل اتجاه، ويا بوصلة واحدة للزيتون وثدي الأرض الأقرب إلى السماء .
يا لوننا الكابي الباهت المُمضّ العدمي الصامت البارد العاجز ـ الآن ـ ويا صورتنا المتوقّدة الآتية من الجحيم المقدّس، عمّا قليل.
يا خطابنا الفحمي ويا سخام أحرفنا، ويا سجننا الذي نحرسه نيابة عن السجّان.
يا فضيحتنا ! ويا عُرينا ! ويا انتصار السواد على قوس قزح، ويا جريرة الصورة الفخّ التي وزّعوها .. فاعتقد العالَمُ أن الحرب قد انتهت ! وكانوا قد أخفوا البلطة بعيداً وراء الكاميرا، واحتكروا ملامح الضحيّة .
يا أم علي!
يا قصيدتنا التي تهجس بها الرعود التي تختزن البرق، ونشيدنا الذي يتجاوز هذا النتوء المرحلي والسلام الاستيطاني والاتفاق الجنائزي والتآمر الإقليمي.
يا اسم العسل والنار والندى، الذي انجبل فأصبح قوام امرأة، تصهل في صدرها الخيول، وتفحّ في ذراعيها الحمائم، وتتفجر الينابيع الجوفية من جدائلها.
يا سرّ اللؤلؤة المختومة، التي أكملت ضوءها تحت عباءة الغيم وتفتحت نجوماً ذهبية في الحقول.
يا نداءنا في الدمع وجروحنا في الناي وشهوتنا في الجرار. يا أُوار الماء في الليل ويا نرجسة الفصول وموقدة الوجاق.
يا جرحنا المبذول للشتاء، حتى ترتوي الهامة والفرس.
يا جرس البعيد وصورة الجدار وشال الحرير الذابح في غربة السنين، ويا حروف الجائح والثاكل، ويا نبل اليتيم الذي يتغيّا من الفراغ يداً تمسّد رأسه وتحضن أوجاعه الغامضة.
يا بيتنا المفتوح منذ قرن للزغاريد المقتولة ويا فرحتنا المرتقبة، ليعود المفتاح إلى البيارة والبحر.
يا شجن الصوّان ويا نعاس الصبر الذي هدّه الحديد والغبار.
يا انتظار المعجزة الأكيدة لنتحلّق حول أُمنا ثانية، وهي تخضّ القمر ونرتوي من لباء التين، ونشرق بدمِ الرمّان.
يا مواويل الرّهام، الذي يضمّخ السواحل ويزوّج السرو والحمام.
يا زوغان المهاجر يهتف في الليل والصقيع والنسيان.
يا حقيبة الصغار وتلاوين العيد وبراءة الرسائل المخبأة.
يا طرحة الحصاد وانفراط البيدر تحت رخام النحيب.
يا انفعال العصافير حول حابون العصر الزاخر، ويا رجوع العتبات والنعناع وحبق الأماسي في الطرقات.
يا بطناً يلد الجبال ويمور بالوديان ويذرعها بالظباء، ويصعد إلى التلال بفضّة الحصان المجنون.
يا أبجدية الذين سيعودون كاملين إلى الرواية، ليتجلّى النبيّ مرةً أخرى، بمنجله، ولا تعلو به الريح إلى الجُلجلة. يا نوْمتنا المؤقتة لنصحو على العرس والمهرجان، وننعف الأرز على الزفّة المطهمة، والطفل يتراءى لنا في الحضور والحقول! لا تكملي زينتك، فإن عليّاً الصغير قد ذهب ناقصاً دون دمعة الجلّنارّ، وستلدين عليّاً آخر كاملاً مثل بلاده الأرجوان.
كاتب فلسطيني
المتوكل طه