خدعناك أبا عمّار

بقلم: صلاح صبحية

ياسر عرفات ما بين الميلاد وبين الرحيل تاريخ وطن وقضية وثورة ، وطن لم تكتمل بعد شهادة ميلاده ‘ وقضية بدأت منذ نحو إثنا عشر عقداً ولم يكتمل مشهد نهايتها بعد ، وثورة تعثرت خطواتها في مسيرتها ، وياسر عرفات يحمل على كتفه قضيته ووطنه وثورته ويمشى بهم في حقول الألغام ، هنا لغم ينفجر في وجهه ، فيقفز عن لغم آخر ، يُحاط بدوائر النار فيطفئها دائرة دائرة ، يشتد عليه الحصار من الأشقاء الذين وهنوا وتعبوا من طول المشوار ، فتخلوا عن ياسر عرفات وعن قضيته ووطنه وثورته ، فاجتاز إلى دائرة الوطن الضيقة ليعيش حصارا فوق حصار فوق حصار فوق حصار ، حصار الاحتلال ، وحصار الذين لحقوا بقطار الثورة والمقاومة متأخرين ، وحصار رفاق وأخوة الدرب الذين نسوا أنّ الوطن ما زال تحت الاحتلال ، وحصار أشقاء أعياهم انتظار القضاء والقدر ، وكان السؤال في الصباح والمساء ، متى يرحل عرفات ونرتاح ، ونتخلص من كل هذا الدهاء ، ، سـمّ في كوب ماء أو ملعقة طعام وينتهي عرفات ، لم يشهد سوى الأهل لحظة الميلاد ، وفي لحظة الموت والرحيل تداعى المحاصِرون له من كل حدب وصوب ليشربوا معاً كأس الخلاص من عرفات ، لم يمشوا في جنازته حباً به ووداعا له ، مشوا في جنازته حقدا وكراهية له ، من دسوا له السّمَ عقدوا مؤتمرهم في جنازته ، لم يتبادولوا التعازي برحيل قائد ثورة بساط الريح ، بل راحوا يقبّلون بعضهم مهنئين لأنهم الآن يدفنون الياسر الكاسر بأيديهم ، ما أبشع الجريمة حين تكتمل أركانها ، فقد كان الغراب بينهم يصمم للقائد الراحل مثواه الأخير .
أرادوه أسيراً أو طريداً لكنه أراد أن يكون شهيداً ، فصاحب البزة العسكرية البالية المرقعة كان يلتقي مع أبناء شعبه كل يوم ، يؤجج فيهم روح الثورة والنضال ، فما زلنا يا أبنائي تحت الحصار ، بالروح بالدّم نفديك يا فلسطين ، بالروح بالدّم حنكمل المشوار ، عالقدس رايحين شهداء بالملايين ، قائدنا فارس عودة ، فالقائد من يقاوم العدو والاحتلال على الأرض ، فارس عودة هو القائد ، وكل شبل فلسطيني يقاوم دبابة الاحتلال بالحجر الفلسطيني هو قائد ، فمقاومة الاحتلال لا تكون من خلف الأبواب ، أو بدعاء نبثه للسماء ، فحركة فتح التي اطلقت الثورة منذ خمسين عام لم تزل تعني وجودها ، حركة التحرير الوطني الفلسطيني .
أبا عمّار ، وأنت تحضر اليوم بيننا ، يشتاق أطفال فلسطين إليك ، لتضع قبلة على حروقهم التي خطّت طريق النضال من أجل الوطن الذي أكتمل له الضياع ، حروق محمد أبو خضير وعلي دوابشه تنتظر قبلاتك أيها الراحل ياسر عرفات ، قبلاتك لترسم لهم درب الخلاص من آلامهم وتشير إلى آمالهم في آخر النفق ، فمتى تعود إليهم يا من أجبرك المتخاذلون المهزومون على الرحيل .
هو ياسر عرفات يحضر الآن بيننا ، نبثه أحزاننا ، نحكي له عن مخيمات نهر البارد واليرموك وحندرات ، نروي له حكايا قوارب الموت التي تنقلنا قسرا بعيدا عن أرض الوطن الذي إليه نتوق ، نسأله أن يروي لنا ما قال له شهداء المخيمات والذين رحلوا عنا بلا جنازات ، ونسأله ألم يرى من علياء السماء كيف تشتت الأبناء والآباء ورحلوا إلى بلاد ليست بلادنا ، هي النكبة لم تنته بعد أبا عمّار ، هو التيه الذي يأخذنا إلى ضياع جديد .
ياسر عرفات أيها الحاضر بيننا الآن ، قلوبنا تنظر إليك ، أنت المطعون منا ، نحن الذين أخفينا مسدسك من أيدينا ، ومزقنا لباسك العسكري ، أمّا كوفيتك فقد أهديناها لمن أرادوا الخلاص منها ، ولم تعد رمز وطن وقضية وثورة ، فتخلينا عن كوفيتك بإرادتنا ، لأننا تخلينا عن نهجك الثوري ، وأصبحت كوفيتك الرمز مطاردة في أنحاء البلاد ، ولم يعد منها سوى أغنية يخدعون بها أطفال فلسطين ، بعد أن كانت سلاحا ذو حدين ، سلاح لقهر الأعداء ، وسلاح لشحذ همة النضال .
كلنا الآن مخادعون لأننا لم نـُبق منك سوى الكلام المباح ، فقد تخلينا عن نهج الكفاح والنضال ومقاومة الاحتلال ، وأصبحت فلسطين دولا ثلاث ، فمتى تعود إلينا أبا عمار ، لنخوض حروب الرّدة معاً وتعود فلسطين هي العنوان .

الرياض في 4/8/2015 صلاح صبحية