غرور المثقفين والفشل… فيديو التعذيب… وتجربة مهمة!

بقلم: فايز رشيد

في وطننا العربي كل ما يحدث يصب في مجرى السياسة، فنفايات بيروت وقطع كهربائها وإطعام الشعب اللبناني وغيره من الشعوب العربية، الطعام الفاسد، تصب في مجرى السياسة.
كما تعذيب المعتقلين في السجون العربية، ومظاهر ذبح "داعش" للناس، كذلك غرور المثقفين والساسة، فكل ذلك أيضا يحط في خانة السياسة. ولأنه في البدء كانت الكلمة، لذا فهي مسؤولية، خاصة عندما تأتي من مثقفين، والأخيرون بدورهم في مجتمعاتنا ينقسمون إلى شرائح عديدة، منها المثقفون المغرورون!. ولعل تعبير "الغرور" المقيت.. قديم في ظهوره، وتَجدّد بقوة في العقدين الأخيرين، من خلال ارتباطه بـ"القوة". كان ذلك في وصف حالة من استعراض العضلات الأمريكية على العالم، خاصة بعد الانهيار السوفييتي ودول المنظومة الاشتراكية عام 1991، وبالتالي أصبح التعبير في تَجدده يتخذ مناحي عدة: غرورالديكتاتوريين والساسة والأصوليين المتطرفين..وهكذا دواليك!
الغرور أول ما ظهر وفقا للتاريخ، كان لدى الكهنة السومريين وسحرة بابل، كانوا جميعا يدّعون إمكانية تغيير الظواهر، لكنهم في حقيقتهم لم يستطيعوا تغيير أي شيء. الغرور يؤدي بصاحبه إلى الفردية المتمثلة في "الأنا" المطلقة والغطرسة على حساب العموم.
ولأن المثقف جزء من مجتمعه، والمجتمع يعيش أجواء الدولة التسلطية والديكتاتورية الرسمية، ومع بروز الدولة العربية القطرية الحديثة، فإن البنية الفوقية لها، جعلت من نفسها بديلاً للفرد وللمجتمع، وتحاول ان تنوب عنه في كل المسائل، ما زاد من تسلطية المثقفين التابعين لأنظمتها الرسمية القهرية. المثقف المغرور يعيش حالته النرجسية الفردية المقيتة والشاذة، يصنع له وهمه دوائر عاجية، ربما تكون بروجا عالية أو قصورا.. لكنها تظل سرابا! فكما يذهب ظمآن الصحراء إلى بريقه ظانا أنه ماء.. فإن وصَلَه وجده شيئا آخر إلا الماء.
من أكثر الديكتاتوريات تسلطا هي "دكتاتورية المثقفين"، أستعرض ما قاله مٌلهم ثورة أكتوبر عنها:"إن المثقفين هم الأقدر على الخيانة.. لأنهم الأقدر على تبريرها". المثقف المغرور، مهما كثرت شهاداته العليا ومحاضراته في جامعات أو معاهد أو مدارس، أو في تكيّات او كنائس أو جوامع، لا ولن ينتج غير الزيف، وكذلك الظواهر المتطرفة، بدليل أن التنظيمات الأصولية، كـ"النصرة" و"داعش" وغيرهما تعتبر أنها تحتكر الحقيقة الإسلامية المطلقة، وأنها صاحبة الإسلام الصحيح، وأنها ممثلة السلطة الإلهية على الارض! أما الآخرون فكلهم منحرفون عن الإسلام!
المثقف المغرور، ولأنه في انفصال دائم عن مجتمعه يعتبر أنه الوحيد القادر على إنتاج المعرفة والثقافة، وأن كل الآخرين ليسوا مثقفين! لذا فهو ليس بحاجة إلى معرفة ثقافاتهم، ولا آرائهم ولا ما ينتجون! وعلى صعيد السياسة أيضا.. فإن الساسة المغرورين لا ينتجون سوى الفشل، بدليل الأوضاع الرديئة التي يعيشها عالمنا العربي في المجال السياسي، ومدى حجم وزنه المؤثر الصغير على الصعيد العالمي، رغم ثروته ومصادره الكثيرة وقدراته، في ما لو وُظفت، وعلى ذلك قس: الكاتب المغرور، الشاعر المغرور، الممثل المغرور.. الخ. أذكر حادثة طريفة.. كان ذلك في قطر، وفي مبنى "الجزيرة" تحديدا، استقبلني مضيفي، وسلّمتُ على بعض الموظفين ممن عرفتهم في مشاركات لي سابقة، كانوا يتندرون على مثقف عربي اشترط عليهم أن يُسبق اسمه في تعريفه بكلمة "مفكر"، سأل أحدهم ما معنى مفكر؟ أجابه الثاني "يعني اللي بفكر"، فتساءل الأول : أيعني هذا أن كل الآخرين لا يفكرون (في الحقيقة نطق كلمة تشبيهية مضحكة!)، ضّجوا كلهم بعدها بالضحك! مثَل سقته عن غرور بعض المثقفين، بأنفسهم. وفقا لعلم النفس، فإن الفكرة المنزرعة في اللاوعي لـــدى الإنسان، عندما تفرض سيطرتها على العقل الواعي لديه، فإنها تجبره على نمطية سلوك شاذ، إن لم تكن لديه حصانة لتهذيب محتواها وأنسنته، لذا فإن المغرورين في كل المجالات لا يجيدون التهذيب، وفن التعامـــل مع الناس باعتبار الأخير هو السمة الأولى للمثقف الحقيقي الأصيل. المغرورون في العادة مصابون باستعلائية متناهية، وشعور بالعظمة وامتلاء دماغي فردي، متقوقع على الذات و"معرفتها الواسعة كالمحيط"! والكثيرون منهم يعكسون ذلك على طريقتهم في الحديث وحتى مشيتهم، وعلى غير ذلك من الصفات الإنسانية، التي تتحول لدى المصاب بالغرور إلى نقيضها!.. حتى بدون معرفة صاحبها لها، وبدون إحساسه بها.
بالنسبة لفيديو تعذيب الساعدي القذافي الذي انتشر بين الناس، كما النار في الهشيم، الذي كتبت عنه "القدس العربي" أمس، كما الفيديوهات السابقة كلها، التي انتشرت عن تعذيب وذبح "داعش" للناس بطريقة أسوأ من نحر الخراف، وبغض النظر عمّن وزعها، فإنها تهدف في النهاية إلى ترويع الشعوب العربية بهدف، دفعها للاستكانة والكف عن مقاومة هذه الظواهر الإرهابية العابرة بالضرورة، واعتبارها قدرا إلهيا، تماما كالعدو الصهيوني في مذابحه وجرائم شارعه الصهيوني، خاصة حرق الرضيع علي الدوابشة، الذي لم يكن الأول ولن يكون الأخير! وتماما مثل مجازر الطنطورة، دير ياسين، وكفر قاسم والسموع وقلقيلية، ودفن الجنود المصريين أحياء في رمال سيناء عام 1967، ومجازر بحر البقر، حرق المنبر في المسجد الأقصى، الحرم الإبراهيمي، مبنى الصنايع في بيروت عام 1982، قانا الأولى والثانية، وحرق الأطفال الفلسطينيين وذويهم مثلما في الجريمة الأخيرة، وذلك بكشف لوقائع الجديدة فيها: خروج الوالدين للاستنجاد! وما لبث أن قام الفاشيون ببطحهما وسكب المادة الكيماوية الحديثة وإشعال النار فيهما.. ومن ثم الغناء والرقص، كما فعل نيرون عندما قام بحرق روما! القمع هو القمع ذاته، ووسائله نفسها، ومقترفوه مجرمون، وشذاذ آفاق، يهدفون ايضا إلى إهانة المُعذّب وقتله بطيئا.. فعَلها ويفعلها الصهاينة ويكررها متطرفو ليبيا، والمتطرفون الآخرون حيثما وُجدوا.. لا فرق بينهم! لا يعترفون بشرائع سماوية، لأن الإسلام الحقيقي ينهى عن تعذيب المعتقلين، والدلائل والشواهد في التاريخ كثيرة، كذلك هي المسيحية.
أما بالنسبة لقضية التجربة التي تستحق أن تُعمم بالفعل، فأقصد بها تجربة في قرى نابلس ذكرها وكان وراءها الأخ محمود العالول عضو اللجنة المركزية لحركة فتح، وقرأتها في إحدى الصحف، نقلا عن مقابلة له على فضائية "العودة"، وفحواها: أنه وبمشاركة ممثلين عن الفصائل الفلسطينية، ووجوه من المدينة والقرى، قاموا بتشكيل لجان حراسة لبعض القرى في المحافظة. خطوة إيجابية تستحق التعميم في كافة أنحاء الضفة الغربية. صحيح أن الفكرة قديمة، وجرى طرحها سابقا،غير أنها المرة الأولى التي أسمع وأقرأ أنها دخلت حيز التنفيذ والتطبيق. صحيح أن الحراس، ووفقا لـ "اتفاقيات أوسلو" المشؤومة، لن يحملوا أسلحة.. لكن هذه اللجان ستشكل رادعا ولو بسيطا للاعتداءات الصهيونية، على بعض قرانا، وستشكل نوعا من الأمن لاهلنا فيها.

٭ كاتب فلسطيني

د. فايز رشيد