من غرائب الصدف أنني وصلت السنة الماضية أرض الوطن بعد قيام المستوطنين بحرق الطفل محمد أبو خضير في بلدة شعفاط، وكانت أول زيارة لي خارج البلدة إلى جنازة الشهيد وسرادق العزاء الذي طوى تحت جناحيه الوطن بكامله.
وها أنا أصل هذا العام إلى أرض الوطن بعد عشرة أيام من حرق الرضيع علي سعد دوابشة، ابن الثمانية عشر شهرا في بلدة دوما، وتكون أول زيارة لي خارج البلدة إلى سرادق العزاء الذي ما زال يستقبل جموع المعزين من طول البلاد وعرضها، فجثة الشهيد الصغيرالمتفحمة تحولت إلى رمز بحجم البلاد، التف حولها الوطن بكامله وسارت في جنازته الأمة وشرفاء العالم.
لا شيء يوحد الفلسطينيين والعرب الشرفاء إلا دماء الأبرياء يسفحها القتلة الحاقدون، لا شيء يهمش الأحزاب والفصائل والسلطة والرتب العسكرية والحركات والجمعيات والنوادي والفرق الموسيقية ومهرجانات الصيف العديدة، إلا لحم الأطفال المشوي بنار الحقد الأسود. بين الطفلين محمد وعلي عام وبضعة أيام سقط فيها أكثر من 560 طفلا جلهم من قطاع غزة، أثناء الحرب الوحشية على الشعب المحاصر بين كماشتين. في سنة واحدة قدم الشعب الفلسطيني آلاف الشهداء وآلاف الجرحى وآلاف الأسرى، ليس دفاعا عن مذهب أو نظام أو عرق، بل دفاعا عن أمة تكاد تنتحر، وعن كرامة مهدورة وعن عزة تبخرت وتاريخ مجيد تعاد صياغته بدم الأبرياء لخدمة الطائفة أو المذهب أو الايديولوجيا.
الحريق الذي التهم الرضيع في سريره الصغير وأتى على الجزء الأكبر من اللحم الحي لكل فرد في العائلة الصغيرة، سعد ورهام وأحمد، سيكون بمثابة عود ثقاب يشعل مشاعر الغضب في ما تبقى من ضمائر حية في هذه البلاد وأكنافها الغارقة في حروب وصراعات عبثية. لعل جمرة من الجسد المشتعل تطلق شرارة بركان الغضب ليحرق ما تبقى من عروش واهنة أو جيوش راكدة أو أحزاب ضائعة. واسمحوا لي أن أعكر عليكم سكينتكم وآخذكم معي في رحلة قصيرة إلى غرفة الطائر المحروق في بلدة دوما، التي كانت في ما مضى تسمى قلائد العنبر لجمالها وكرم أهلها. بلدة جميلة تغفو بين أشجار الزيتون التي احترق منها المئات بأيادي قتلة علي أنفسهم، ويعيش أهلها على ما تجود به الأرض من خير عميم ويحلمون بغد واعد يعيشون فيه أحرارا بدون مداهمات الجيوش أو استفزازات المستوطنين.
جد الشهيد محمد دوابشة
أنا محمد حسن دوابشة والد سعد الذي أحرق بيته في الليل وهو نائم وراح حفيدي علي ضحية في هذه الجريمة. وهذا ما يزيدني عزما وإصرارا لنظل صامدين على هذه الديار غصبا عن هؤلاء الذي يحاولون أن يطردونا منها. في العقود السابقة عملوا الأساليب نفسها لتهجير الشعب الفلسطيني من دياره، فهم الآن يعيدون الكرة ليهجروا الناس من بيوتهم، لكنهم فشلوا وسيفشلون بإذن الله تعالى. إنني أعتبر استشهاد حفيدي علي مسمارا في نعش دولة إسرائيل التي تطلق العنان لهؤلاء القتلة والمجرمين.
عم الشهيد نصر دوابشة
سهرنا مساء الخميس عند والدي، عائلتي وعائلة سعد لغاية الساعة الواحدة من صباح الجمعة. غادرنا سعد وابنه أحمد بعد أن شعر بشيء من التعب، فهو عامل بناء يكسب رزقه من عرق جبينه. بقيت رهام والطفل علي معنا وغادرا الساعة الواحدة والنصف ورافقتهم أختي في المشوار القصير من بيت والدي إلى بيت زوجها سعد. تحدثت المرأتان لمدة عشرين دقيقة واقفتين بالباب. عادت أختي إلى بيتها ودلفت رهام إلى غرفتها وأقفلت الزناد الساعة 1:50 دقيقة من صباح الجمعة. بعد 19 دقيقة بالضبط أي الساعة 2:09 صباحا كان سعد ورهام أمام المنزل يصرخان ويتفعفلان على الأرض ظهرا وبطنا ويطلبان الإغاثة والنار تأكل جسديهما. المنزل كان مشتعلا. سمع ابن الجيران إبراهيم محمد دوابشة، الذي يسكن على بعد بيتين، الصراخ والاستغاثة فهرع إلى المكان. في اللحظة التي وصل فيها المكان شاهد شخصين يقفان فوق رأسي سعد ورهام ويبدو أنهما سكبا عليهما مزيدا من المواد المشتعلة. هاجم المستوطنان إبراهيم لأنهما عرفا أن أمرهما انكشف فهرب إبراهيم من أمامهما وهو يصرخ على أهله وإخوته والجيران للنجدة. انسل المستوطنان إلى كرم زيتون قريب ويبدو أن سيارة كانت تنتظرهما في الشارع الترابي تحت البلدة ولاذا بالفرار. تجمع الجيران وحملوا "سعد" وأبعدوه قليلا ملفوفا بغطاء فأشار لهم بيده نحو رهام فذهب إبراهيم ووالده لإنقاذ رهام وحملوها ملفوفة بغطاء سميك، تمكن من خنق النيران لكنه لم يخنق الحروق التي أتت على جسدها. عاد إبراهيم لأحمد وهو داخل البيت المشتعل وأخرجه وجاء به لبيت والدي كي لا يراه والداه فينهار ما تبقى من جسدين محروقين. وعاد وفتش من بين النيران الهائلة وأخرج الطفل علي وكان جثة متفحمة. اتصلنا بالدفاع المدني فنقلوهم مع ساعات الصباح الأولى إلى مستشفى رفيديا بنابلس. الحروق كانت أكبر من إمكانيات المستشفى البسيط. قام المستشفى بطلب المساعدة من مستشفيات إسرائيلية لإنقاذ حياة الجرحى، وكان الخبر قد انتشر في كل الدنيا فأرسلت طائرتان مروحيتان حملتا أحمد ورهام إلى مستشفى تل هشومير وأحمد إلى مستشفى سوروكا في منطقة بئر السبع في الجنوب. وأود أن أؤكد أن الحريق الذي شاهدناه كان شديدا جدا ففي عدة دقائق أتت النيران على كل محتويات البيت. يبدو أن طبيعة المواد التي ألقيت على البيت كانت شديدة الاحتراق مدت ألسنة اللهب بارتفاع خمسة أمتار خارج البيت.
آخر كلمة قالها أخي سعد عندما سأله جارنا قبل أن يغيب عن الوعي، ما الذي حدث قال: "ذبحوني يا أبو مظهر"، ما يعزز نظرية الاعتداء أولا قبل الحرق. فهذه الإصابات بنسب عالية جــــدا وفي فترة قصيرة جدا تعزز شكوكنا بأنهم اقتحموا البيت وضــربوهم وصبوا على أجسادهم المواد المشتعلة ثم أشعلوا النيران في البيت، كي لا يخرج منهم أحد حيا، حيث كانت العائلة تنام في غرفة واحدة فيها مكيف بسبب ارتفاع درجات الحرارة غير المسبوق في فلسطين والمنطقة.
الدكتور محمد سليمان حسن دوابشة
كنت أمس في زيارة للجرحى الطفل أحمد وأمه رهام في مستشفى تل هشومير في تل أبيب. أما الوالد سعد فقد فصل عنهما وأرسل إلى مستشفى سروكو في بئر السبع- أحمد عنده حروق درجة ثانية وثالثة بنسبة 60٪، يقول الأطباء إن حالته مستقرة لكن طفحة من ماء مستقرة في الرئتين. ما زال في غيبوبة تامة قد تجري محاولات رفع بعض الأجهزة عنه ليعود إلى الوعي. الأم رهام حسين (24 سنة) عندها حروق درجة ثالثة بنسبة 90٪ فما فوق. حالتها حرجة جدا. الأب سعد (32 سنة) عنده حروق درجة ثالثة بنسة 90٪ أيضا. تمت زراعة أجزاء من الجلد لفتح مجرى تنفس، حالته حرجة.
يعرف أهل الطفل أن إدانات دولية صدرت ضد مرتكبي الجريمة، لكن ماذا تفعل الإدانات؟ ألم تصدر إدانات دولية عند حرق الطفل محمد أبو خضير؟ فماذا صنعت الإدانات الدولية؟ أتعرف أن الإسرائيليين يحاولون إحضار أطباء من الخارج لإصدار شهادة أن مرتكبي جريمة أبو خضير مختلون عقليا؟ لم يستطيعوا إصدار شهادة من الأطباء المحليين.
بان كي مون عندما تصاب مستوطنة يخرج ويدين الإرهاب الفلسطيني، أما في هذه الحالة فيصفها بأنها عمل إرهابي وكأنه حادث معزول غير مرتبط بإسرائيل.
البلده هنا وقفت وقفة رجل واحد، نحن نعيش في قرية صغيرة عدد سكانها ثلاثة آلاف نسمة، نحن أقارب. لكن المهم وقفة الشعب الفلسطيني الواحدة والموحدة من هذه الجريمة. لقد سار الوطن كله في جنازة الرضيع علي، شكرا له لأنه وحد البلاد.
إعادة رسم المشهد الأخير
احتراق علي دوابشة محاكمة علنية لنا جميعا. عداوتهم لنا واضحة كالدم المسفوك- لا اجتهاد ولا تأويل ولا تحليل ولا تحوير. قطيع من الذئاب المتوحشة توغل في دمنا وحدنا حتى النهاية – لا ينجو من أنيابها أحد. ونرد على الجريمة الأبشع بالقصائد والخطب والبيانات التي تؤكد أنه ذئب واحد انفلت من عقاله وبعج طفلا أو اثنين وانتهى الأمر، فلماذا الصراخ والعويل وقد أكدوا لنا أن الفاعل عند القبض عليه بعد دهر أو دهرين سيمثل أمام العدالة. ليث الخالدي وحده لم يصدق الرواية الرسمية التي تباري فيها ريفلين ونتنياهو وبيرس وتباكوا على الطفل الشهيد البريء المسكين. ليتهم ذكروا في بكائياتهم كلمة عن الخالدي ابن الـ17 ربيعا من مخيم الجلزون الذي لم يحتمل مشهد الطفل المحترق ففتح صدره للرصاصة التي لم تخطئه باعتباره إرهابيا يكره ممارسات المستوطنين ويحتج عليها بالصراخ.
عصفور احترق جناحاه أمام عجزنا. كل واحد منا مسؤول عن دمه. تعودنا الخنوع والهروب- نختبئ أفرادا وجماعات خلف "لا حول ولا قوة إلا بالله". الخنوع تجذر عميقا في النفوس بعد ترويضات دايتون – سلام التي أنتجت جيشا من الموظفين الناطرين معاشات آخر الشهر لدفع أقساط السيارة والجوال والشقة والأثاث.
الأبراج الشاهقة في رام الله تتسابق بينها في الطول والفخامة.
مهرجانات الصيف مستمرة والمغتربون العائدون إلى الوطن ينعشون الأسواق المحلية وتسير الحياة في البلاد وكأن الاحتلال مغيب تماما، إلا عندما يحترق عصفور جميل بجمال علي فينتشر رماد ريشه الجميل في عيوننا فنتذكر أن هناك احتلالا كريها حاقدا لا يأبه بآلامنا ولا أحزاننا ولا استغاثاتنا بالمجتمع الدولي الذي يجب أن يتحمل مسؤولياته- فكيف سيقوم المجتمع الدولي المنافق بتحمل مسؤولياته، إذا نحن لم نتحمل مسؤولياتنا أولا ثم نجبر العالم أن يتحمل مسؤولياته ليس حبا فينا فقط، بل لأنه بدأ يشعر بخطورة ثورة الغضب التي يشنها الفقراء المظلومون.
٭ محاضر في مركز دراسات الشرق الأوسط بجامعة رتغرز بنيوجرزي
د. عبد الحميد صيام