لأنّ المجرم الحقيقي ما يزال حرّاً طليقاً، بل لأنّ المجرم الحقيقي ما يزال يخطّط لجرائم أخرى، فيما يتباكى على الضحايا ويستنكر ما طالها من إجرام مستبشع ومستشنع يحلو له وصفه بـ"الإرهاب اليهودي"، فإن جريمة حرق الرضيع دوابشة حيّاً لن تكون آخر جرائم دولة الاحتلال ولن تكون آخر المشاهد الإجرامية في مسلسل الإرهاب المنظّم الذي تخطط له وترعاه وتحمي منظميه ومنفذيه دولة الاحتلال والاستيطان والإرهاب المنظّم.
فجريمة حرق الرضيع دوابشة حيّاً وهو الذي لم يكمل نصف العام الثاني من عمره ما كانت لتكون لولا أن الإجرام اليهودي المنظم الذي ترعاه وتحميه دولة الاحتلال لا حد له ولا قيد عليه، لا سيما إذا عدنا بذاكرتنا الفلسطينية التي لا تغادرها جرائم دولة الاحتلال والاستيطان والإرهاب المنظّم- إلى جريمة حرق الفتى محمد أبو خضير حياً منذ نحو عام على أيدي المستوطنين الذين ترعاهم دولة الاحتلال وتحميهم وتحفز إجرامهم.
إجرام دولة الاحتلال والإرهاب والاستيطان إجرام منظّم يتواصل فيما تتغير مشاهده: حرق المزارع وأشجار الزيتون، حرق المساجد والكنائس، حرق الفتى محمد أبو خضير حياً بعد خطفه وإكراهه على شرب البنزين ثم إشعال النيران في جسده... إلخ
هذه الجرائم هي جرائم منظمة ترعاها وتحميها وتؤيد منفذيها وتشجعهم وتحفّزهم دولة الاحتلال التي يتفنن قضاؤها في عقد محاكمات صورية الهدف منها ابتداع مبررات يتم بموجبها إعفاء دولة المستوطنين (دولة داخل دولة) من المؤاخذة القانونية والمعاقبة والمحاسبة. فرئيس دولة الاحتلال والاستيطان والإرهاب المنظم ريفلين يعترف بأن دولته تتعامل مع "الإرهاب اليهودي" ضد الفلسطينيين بشيء من الضعف والهشاشة حتى أنه انتهى إلى حقيقة تاريخية مفادها أنّ القضاء الإسرائيلي كان على الدوام متسامحاً إلى حد الاستغراب والدهشة من ضعفه وهشاشته حيال مرتكبي الجرائم من اليهود ضد الفلسطينيين، الأمر الذي يشير بوضوح ومباشرة إلى أن دولة الاحتلال والاستيطان هي المحفز الرئيسي والراعي الحقيقي للإرهاب المنظم ضد الشعب الفلسطيني.
الإرهاب المنظّم الذي تمارسه دولة الاحتلال والاستيطان لم يعد في أدنى حاجة إلى إقامة الدليل عليه. فالأمم المتحدة التي لا حول ولا قوة ولا أدنى احترام لها عند دولة الاحتلال والإرهاب المنظم ملفاتها مليئة بالشكاوى والاتهامات والوثائق الدالة عليها والمستندات المؤكدة على ارتكاب دولة الاحتلال والإرهاب المنظم جرائم ضد
الإنسانية، لا سيما ما ارتكبته من جرائم في حروبها الثلاثة على قطاع غزة في الأعوام 2008 /2009 و2012 و2014. أما منظمة العفو الدولية Amnesty ، فقد نشرت تقريرها الوثائقي الدال بكل وضوح على ارتكاب جيش دولة الاحتلال والإرهاب المنظم جرائم حرب ضد الفلسطينيين في رفح جنوب قطاع غزة، فضلاً عن التقرير الذي أصدره المجلس العالمي لحقوق الإنسان المتضمن ارتكاب دولة الاحتلال والإرهاب المنظم جرائم ضد الإنسانية أثناء حروبها الثلاثة على قطاع غزة، لا سيما الحرب الأخيرة عام 2014.
صحيح أن رئيس دولة الاحتلال والإرهاب المنظم ريفلين ورئيس حكومته نتنياهو قد استنكرا- كل بطريقته- جريمة حرق الرضيع دوابشة، لكن هذا الاستنكار والتباكي لا يستطيع أن يصمد للتغطية والتعمية على حقيقة مفادها أن جريمة حرق الرضيع دوابشة وما سبقها من جرائم كبيرة وخطيرة، لا سيما حرق الفتى أبو خضير حياً، بعد خطفه وإجباره على شرب البنزين وإشعال النيران في جسده، وما سبق ذلك من جرائم ضد البشر والحجر والشجر ليس إلا جرائم إرهاب منظم ترعاها دولة الاحتلال رعاية حقيقية وتامة هي أقرب إلى الخيال منها إلى الحقيقية.
ففي مقاله بعنوان: "انتصر المستوطنون"، يقول جدعون ليفي، المحلل السياسي في صحيفة هآرتس: "المستوطنون انتصروا وهم يستحقون الانتصار... لقد تحقق الانتصار الساحق للمستوطنين بفضل أنفسهم فقط، بفضل ضعف المعسكر المقابل لهم... معسكر الأغلبية الصامت حتى الموت تقريباً. المستوطنون انتصروا لأن تل أبيب لا يهمها أن ينتصروا... ليس هناك حاجة إلى وزير دفاع يناضل من أجل الحفاظ على القانون ولا محكمة العدل العليا. الجميع يعرف أن هناك دولة أبرتهايد وهي تلقي بظلها على كل طابع الدولة.. ويقبلون ذلك بخضوع.. لا تتهموا المستوطنين، لأنهم لا يستحقون الاتهام، فالمتهم هي إسرائيل التي صمتت على أفعالهم... لقد أرادوا الانتصار بقوة ولم يقف أحد في وجههم..".
أمّا جيش الاحتلال والإرهاب المنظم الذي يتباكى مستنكراً عملية حرق الرضيع دوابشة حياً، حيث وصفها بأنها "إرهاب يهودي"، فقد وصف المحلل الإسرائيلي جدعون ليفي بقوله: "أرض التخصيب الأولى لحارقي عائلة دوابشة هي الجيش الإسرائيلي الذي قتل 500 طفل في غزة... إطلاق النار على الفلسطينيين عادة يومية تقريباً: قتل اثنان بعد حرق عائلة دوابشة، الأول في الضفة والثاني على حدود غزة... حياة الفلسطينيين مستهدفة من الجيش الإسرائيلي ودمهم رخيص من قبل المجتمع ومسموح لميليشات المستوطنين قتلهم حيث إن معيار الجيش في غزة هو قتل كل شيء لإنقاذ حياة جندي واحد... عضو اليمين باروخ مرزيل قال الأسبوع الماضي إنه من أجل شعرة واحدة في رأس يهودي مسموح قتل آلاف الفلسطينيين. هذه هي الأجواء وهذه هي النتيجة والجيش الإسرائيلي هو المسؤول الأول عنها... إسرائيل هي التي أحرقت عائلة دوابشة."
المحلل السياسي في صحيفة معاريف، بن كسبيث يقول: "... ليعرف رئيس الحكومة نتنياهو ووزراؤه ومؤيدوه أن من يزرع المطر يحصد الريح. لا يمكن التخلص من المسؤولية. هذه المسؤولية التي توجد أمامنا وهي واضحة وقائمة. بعد قتل إسحق ربين تبين أنهم جميعاً شاركوا في القتل. نتنياهو الذي وقف على تلك الشرفة جاء إلى
الجنازة وقدم العزاء ولم تتم محاكمة أي من الحاخامات الذين حرضوا على قتل رابين... يوجد لديهم غطاء وفواتير وليس هناك ما يخيفهم."
إنّ الانحراف البيّن عن الجادة هو أن ينُظر إلى جريمة قتل الرضيع دوابشة حرقاً مع الاعتداء على عائلته حرقاً على أنها جريمة ارتكبها إرهابيون متطرفون، ذلك أن هذه الجريمة إنما هي جريمة منظمة ارتكبتها دولة متطرفة تعتمد أقصى درجات التطرف والإرهاب المنظم. وعليه، فما العمل، فلسطينياً؟ ليس العمل، في أي حال، أن يكون رد الفعل الفلسطيني الرسمي هو مطالبة حكومة دولة الاحتلال والإرهاب المنظم بمحاسبة المستوطنين، فيما السلطة الفلسطينية برئاستها تتغنى بالتنسيق الأمني حتى القداسة في ذات الوقت الذي تعلم فيه يقيناً أن هذه الحكومة هي الحكومة الأكثر تطرفاً في تاريخ دولة الاحتلال والأكثر حماية ورعاية وتأييداً للاستيطان والمستوطنين حتى أنه من أعلى درجات الصواب أن تسمى بأنها حكومة المستوطنين. ليس العمل في أي حال أيضاً أن يقتصر رد فعل رئيس السلطة على تكليف المالكي برفع ملف الجريمة إلى الجنائية الدولية ومجلس الأمن لعلمه بأن الأمر سيمكث في الجنائية الدولية سنوات، وأن مجلس الأمن سيلقى الحجر الأمريكي في فمه، فيما الوضع الفلسطيني بحاجة إلى تصرف عاجل ورادع.
وبعد، فإن الاستمرار في خيار تجنب المواجهة مع الاحتلال- بل خيار منعها- إنما هو تحفيز لدولة الاحتلال لارتكاب المزيد والمزيد من الجرائم بعيداً عن أبسط مبادئ الإنسانية وضرورات الكرامة الوطنية وألف باء الوطنية- لا الثورية- الفلسطينية. وعليه، فلا محيص ولا مصرف قط عن مواجهة شاملة وعارمة تتفجر لتتواصل فَتَجُرُّ عبر مسار ثوري راسخ ورصين يتصاعد قداسة التنسيق الأمني بقادته ورموزه وأزلامه إلى وجع الخزي والمذلة والعار والندامة.
أما آخر الكلام، ألا يعيب أبا مازن- بصفته رئيساً ثلاثياً للمنظمة والسلطة وحركة فتح- أن يقول أمام وفد ميرتس الذي جاء إلى مكتبه للتعزية في الرضيع دوابشة: "لا نستطيع أن نصبر أو نسكت على هذا الإرهاب"، فيما تسترخي أذناه، مستمعاً إلى زعيم الإرهاب نتنياهو عبر مكالمة هاتفية للتعزية في دوابشة، واصفاً ما يجري بأنه "إرهاب متبادل"، دون أن يعترض أو ينتقد أو يحتج أو يرفض وهو القائل "لن نسكت على هذا الإرهاب"؟! هل بعد سكوت أبي مازن سكوت؟ وهل بعد قدسية التنسيق الأمني مع دولة الاحتلال قدسية نراها تفوق وتتفوق على قدسية القدس والأقصى؟
بقلم: الدكتور/ أيوب عثمان
كاتب وأكاديمي فلسطيني
جامعة الأزهر بغزة