كثيرون كتبوا وتحدثوا عن الجرائم الإسرائيلية بحق شعبنا ، بل إن العالم كله أصبح يُدرك حقيقة إسرائيل العدوانية والإرهابية ،فجرائم إسرائيل يندى لها جبين البشرية ،وجريمة إحراق الطفل الدوابشة ليست الوحيدة بل تضاف لآلاف الجرائم التي تم ارتكابها منذ أن ظهرت الحركة الصهيونية متحالفة مع القوى الاستعمارية في بداية القرن العشرين. ولكن السؤال يفرض نفسه بعد كل جريمة صهيونية وبعد كل مأزق سياسي أو عدوان عسكري ،ما العمل ؟ وهل يمكن المراهنة على التأييد العالمي فقط حتى تتوقف إسرائيل عن إرهابها وعدوانها ونستعيد حقوقنا ؟ أم هناك حلقة مفقودة تتعلق بنا كفلسطينيين ؟ .
مع اعترافنا بالمسؤولية التاريخية للغرب وللدول العربية عن مأساتنا التاريخية ، وأن المواقف وردود الفعل الدولية والعربية ما زالت قاصرة وليست في المستوى المطلوب للرد على إسرائيل ، إلا أنه ومهما كانت المواقف وردود الافعال الدولية والعربية المؤيدة لنا فإنها لن تشكل بديلا عن فِعلنا الذاتي الوطني ، والعالم لن يكون فلسطينيا أكثر من الفلسطينيين . وعلينا الاعتراف بوجود خلل فلسطيني في إدارة الصراع مع إسرائيل وفي إدارة شؤوننا الداخلية .
لا يمكننا مواجهة الاحتلال وجرائم المستوطنين بنظام سياسي فلسطيني منقسم وعاجز حتى عن إدارة أموره الداخلية ، نظام سياسي تقوده نخب سياسية واجتماعية ،بعضها فاسد ، وكلها لا تستطيع أو لا ترغب بمواجهة الفاسدين . إن أي توجه عملي لمواجهة الاحتلال ومواجهة تردي الحالة الوطنية تُلقي على الشعب والشرفاء في القوى الوطنية والإسلامية مسؤولية خوض معركة على جبهتين : الجبهة الأولى مقاومة الاحتلال وسياساته الاستيطانية والتهويدية وعدوانه وحصاره لغزة ، والجبهة الثانية إصلاح النظام السياسي ووضع استراتيجية وطنية شمولية ، على رأسها محاربة الفاسدين وكشفهم لأنهم أدوات للاحتلال مهمتهم تدمير النظام السياسي والمجتمع الفلسطيني من داخله.
سيكون واهِما وساذجا كل مّن يًعتقد أننا نستطيع تحقيق أي انتصار أو إنجاز وطني حقيقي سواء على جبهة المقاومة والصدام المباشر مع الاحتلال ، أو على مستوى العمل الدبلوماسي والسياسي في إطار الأمم المتحدة أو محكمة الجنايات الدولية ، في ظل الهياكل والبنى الراهنة للنظام السياسي بكل مكوناته وفي ظل نفس النخب السياسية الراهنة .
حتى نخرج من العدمية السياسية والقدرية السياسية والشعاراتية الفارغة ولا نستمر في دفن الرأس في الرمال يجب استنهاض الحالة الوطنية وتجديد بنيتها وخطابها وعلاقاتها البينية والخارجية. بمقدار النجاح في هذه المعركة أو الجبهة يمكن الانتصار على إسرائيل ،ليس بالضربة القاضية بالضرورة ، ولكن على الأقل وقف حالة التدهور في النظام السياسي والمنظومة الاجتماعية ، وتسجيل نقاط أو انجازات حقيقية لصالحنا ستؤدي بالتراكم إلى إنجاز حقوقنا الوطنية .
والسؤال الذي يتبادر للذهن ،من أين نبدأ عملية الإصلاح أو استنهاض الحالة الوطنية ؟ هل من خلال (ثورة شعبية) على السلطتين والحكومتين في غزة والضفة ،كما هو الحال في البلدان العربية ؟، هل من خلال إصلاح واستنهاض حركة فتح ؟ ، أو استنهاض وإصلاح منظمة التحرير ؟ أم من خلال المصالحة الوطنية ؟ .
تمت مناقشة كل الخيارات السابقة في عشرات جولات حوارات المصالحة الرسمية ومثيلاتها من ندوات وورش عمل نظمتها مراكز ابحاث وجمعيات وعلى رأسها مركز مسارات ،وكلها وصلت لطريق مسدود ،ليس لأنها خيارات غير واقعية وغير قابلة للتحقيق ، بل لأن – بالإضافة إلى إسرائيل - نخبا فاسدة متغلغلة في بنية النظام السياسي وفي كل الفصائل لا تريد الإصلاح وبالتالي عرقلت كل المساعي والجهود التي بُذلت في هذا السياق . هذه النخب الفاسدة ما كانت قادرة على ذلك لولا أن بعضها مرتبط بأجندة ومشاريع خارجية غير معنية بالمشروع الوطني الفلسطيني ، أو مرتبطة بإسرائيل وهي أيضا تريد تدمير المشروع الوطني وإفشال كل مصالحة فلسطينية ، والخطورة عندما تتحالف هذه النخب الفاسدة في طرفي المعادلة بالرغم من اختلافاتها الايديولوجية والسياسية .
قاعدة وبديهية سياسية ، أنه لا يمكن إصلاح نظام سياسي أو استنهاض حالة وطنية بأدوات ونخب فاسدة أو عاجزة ، وبالتالي تصبح المعادلة : حتى نستطيع مواجهة الاحتلال يجب إصلاح النظام السياسي ، ومدخل الإصلاح هو المصالحة الوطنية أو الوحدة الوطنية الحقيقية ، والذين يُعيقون الوحدة الوطنية والمصالحة نخب فاسدة تسللت لمواقع القرار وفي المفاصل الحيوية في النظام السياسي ، والنتيجة المنطقية أن نبدأ بمحاربة الفساد والفاسدين ، أو أن يكون محاربة الفساد على رأس أي عمل جاد لاستنهاض الحالة الوطنية .
قد يقول قائل إن هذا التحليل يُسقط المسؤولية عن إسرائيل وأطراف خارجية ويحرف البوصلة عن إسرائيل العدو الرئيس لشعبنا ، وهو قول غير دقيق ،لأنه ما كانت إسرائيل والأطراف الخارجية تستطيع النفاذ للنظام السياسي وتدميره من داخله وإعاقة كل محاولات الإصلاح لولا وجود نخب فاسدة سياسيا وأخلاقيا وضعت نفسها في خدمة هذه الاطراف ، وسبَّقت مصالحها الخاصة على المصلحة الوطنية ، كما أن الفاسدين لا يقلون خطورة عن إسرائيل ، إنهم الطابور الخامس و أدوات الاحتلال المكلفون بتدميرنا داخلينا بعد أن فشلت إسرائيل عن قهر الشعب بالعمل العسكري .
لا انفصال بين عجز النظام السياسي والفساد المستشري فيه ، فالعجز والفشل لا يعودا دائما لقلة الإمكانيات ،ولا لاختلال موازين القوى مع العدو فقط ، بل لعدم قدرة او رغبة القيادة والنخب السياسية في توظيف الامكانيات الشعبية والتأييد الدولي في المعركة ضد الاحتلال . وبالتالي فالفساد ليس ماليا فقط بل سياسي .
أوجه الفساد السياسي المُعطِل لاستنهاض الحالة الوطنية متعددة : تعطيل قدرات الشعب ومنعه من مواجهة الاحتلال ، احتكار شخص بعينه أكثر من منصب وموقع دون القدرة على تفعيل هذه المواقع والمناصب ،تعيين أشخاص غير مؤهلين في مواقع مهمة وحساسة ، التنسيق مع الاحتلال والتعاون معه خارج إطار التوافق الوطني أو لخدمة مصالح خاصة ،التغرير بالشعب والكذب عليه ، تحقير الشعب والتشكيك بإمكانياته وبتاريخه وثقافته ، توظيف السلطات العامة لخدمة مصالح خاصة ، التلاعب بالمال العام والمساعدات الخارجية كما يجري مع أموال إعمار غزة ، والسكوت عن الفساد والفاسدين أيضا فساد سياسي .
مع إدراكنا أن النخب المستفيدة من الوضع القائم أو المتخوفة من التغيير ومعها الفاسدين ومن يحميهم من النخب السياسية ،يستمرئون إبقاء الأمور على حالها ، سواء كان هؤلاء في حركة فتح أو منظمة التحرير أو السلطة الوطنية أو حركة حماس ، وبالتالي قد يقبلون نظريا فكرة وخطاب الإصلاح والتغيير وقد يرددون هذا الخطاب بل قد يكونوا الأكثر تحمسا وترديدا له ، ولكنهم عمليا يُعيقون أي توجه جاد في هذا الاتجاه ، والفاسدون أكثر من سيحارب ويُعيق الإصلاح واستنهاض الحالة الوطنية ، لأنهم يعتبرون أن أي إصلاح حقيقي للنظام السياسي سيفضح فسادهم وتواطؤهم وسيكون على حسابهم .
أليست مفارقة أنه في الوقت الذي يتراجع فيه مشروعنا الوطني وتزداد إسرائيل عدوانا وإرهابا ، ويزداد الشعب الفلسطيني فقرا وجوعا وتنتشر البطالة ، في هذا الوقت تتضخم ثروات النخب السياسية وتتزايد امتيازاتهم ، ويعيشون في بحبوحة ورغد عيش ويتحركون بسهولة ووقاحة سواء في قطاع غزة أو الضفة الفلسطينية ؟!.
بقلم/ إبراهيم أبراش