سقى الله أيام زمان… كنا ندفع ولا نتوقع مردودا

بقلم: علي الصالح

كتابان مبعوثان من مسؤول كبير في السلطة الى رئيس الوزراء رامي الحمد الله. الكتاب الأول وهو كالثاني بالنص باستثناء الأرقام والغرض، مبعوث على ورق رسمي يحمل ترويسة دولة فلسطين- الادارة العامة للمعابر والحدود باللغتين العربية والإنكليزية وممهور بتوقيع السيد المسؤول. وينص الكتاب الأول:
دولة رئيس الوزراء د. رامي الحمد الله حفظه الله
تحية الوطن..
يرجى تعليماتكم بصرف رسوم ابنتي (سارة نظمي مهنا)، للعام الدراسي (2014 ـ 2015) والبالغة قيمتها(JD 6400) (و JD هي اختصار لـ JORDANIAN DINAR ولغير المتعودين على اللغة الانكليزية تعني دينارا أردنيا، ولا أدري لما كتبت بالإنكليزي) ليفسرها بالحروف مباشرة (ستة آلاف وأربعمئة دينار أردني).
والامر لدولتكم،
مرسل قبض المدرسة،
مدرسة المعارف
نظمي مهنا
مدير عام المعابر والحدود.. وطبعا هناك توقيع السيد نظمي مهنا
ويطالب السيد نظمي في الكتاب الثاني: "بصرف قيمة مصاريف علاج أسرتي في عمان والبالغة قيمتها (JD 2876)) تم دفعها نقدا. مرفق الفواتير.. الخ".. وقد تكون هناك كتب اخرى أرسلت بأجور البيت وفواتير الماء والكهرباء والهاتف الأرضي منه والجوال إلخ!
قد لا يكون السيد نظمي هو المسؤول الأول، وهو بالتأكيد ليس كذلك، ولن يكون الأخير الذي يطالب فيها بأقساط مدرسة أولاده وعلاج إسرته في عمان أو غير عمان، وربما بل بالتأكيد هناك المئات وربما الآلاف من قبله ومن بعده. وانا شخصيا مع ذلك، على أن يعم الخير على الجميع، إذا كانت الظروف والأوضاع المالية للسلطة تسمح بذلك، خاصة بالنسبة للمسؤولين حتى لا تضطرهم الحاجة للبحث عن "مصادر تمويلية اخرى وفهمكم كاف".
وهو أي السيد نظمي يرى في ذلك حقا لا غضاضة فيه، وقد يكون كذلك. وأكد هذا الحق في مقابلة تلفزيونية أجريت معه بعد تسريب الكتابين من قبل "اولاد حلال يكنون له كل المحبة والمودة).. فقال "إن ما جاء في الكتب الرسمية الموجهة للحكومة وتحمل توقيعي هو جزء من حقوقي كموظف حكومي، ولا تتنافى مع النظام المالي المتاح لدى النظام المالي الحكومي". وأضاف أن من حقي كموظف تقديم كتاب يطالب الحكومة بصرف مستحقات بدل علاج او تعليم، لأن النظام المالي المتاح يسمح بصرف نسبة معينة قد تصل الى 30٪ من المستحقات التي تحمل جميعها فواتير رسمية..". ويستهجن السيد نظمي الهجوم على شخصه كمسؤول في السطة الفلسطينية. ولو كنت مكان السيد نظمي لـ"فركت بصلة في أعين المتربصين والحاسدين" ونشرت نسخة عن عقد العمل الذي يثبت حقه وحق غيره في الحصول على هذه الامتيازات، لكنه للأسف لم يفعل. أنا مع الرفاه الاجتماعي والصحي للجميع، لكن السؤال الاول الذي يطرح نفسه ردا على السيد نظمي هو "أهذا الحق مكفول لكل العاملين في القطاع الحكومي أم فقط لشريحة معينة؟ الجواب جاء سلبيا من ردود فعل الناس والأوضاع تثبت ذلك وهو مقصور فقط على المسؤولين وذوي الحظوة.
المبلغ الذي طالب به السيد نظمي قد يبدو زهيدا وزهيدا جدا بالنسبة للكثيرين جدا، ولكنه بالنسبة لآخرين ضخم وضخم جدا.. فهو يمثل لشريحة كبيرة في المجتمع الفلسطيني وربما الغالبية، راتب ثلاث سنوات بمعدل 300 دينار أردني في الشهر (450 دولارا تقريبا).. وهناك شريحة كبيرة لا يزيد راتبها الشهري عن هذا المبلغ.
وتزداد ضخامة هذا المبلغ، معنويا على الأقل، وسط حديث الحكومة عن عزمها اتخاذ إجراءات تقشفية لمواجهة العجز المالي الذي تعيشه، واستمرار الحديث عن عدم قدرتها على دفع رواتب الموظفين لتبدأ معزوفة "نطالب الأشقاء العرب بسداد التزاماتهم المالية للشعب الفلسطيني الشقيق"، إلى آخر هذه المعزوفة التي أصبحت أسطوانة مشروخة، عزف كل الاشقاء العرب عن الاستماع اليها، لتبدل الاولويات والاهتمامات والتحالفات.. ووجود اشقاء جدد يعانون أكثر من الشعب الفلسطيني، ويحتاجون الى هذه المساعدات لشراء السلاح لإحداث مزيد من القتل والتقتيل.
وبسبب العجز المالي ثمة خطورة ان تغلق مدارس وكالة غوث اللاجئين أبوابها في العام الدراسي ولأشهر، في وجه أكثر من نصف مليون تلميذ فلسطيني موزعين على 700 مدرسة تابعة لها في شطري الوطن، قطاع غزة والضفة الغربية، إضافة إلى الأردن وسوريا ولبنان. والسبب طبعا كما هو معروف نقص في الموارد. ونحن هنا لا نتحدث عن مليارات الدولارات، بل100 مليون دولار، لو وزعت على مجمل الدول العربية لما طال الواحدة منها اكثر من 5 ملايين دولار، لا تساوي ثمن قطعة سلاح تضاف الى ترسانات السلاح العربية، التي لا تستخدم ولا تجرب الا ضد أنفسنا وبعضها مكدس وكساه الصدأ لقلة الاستعمال.. 5 ملايين يمكن أن يدفعها أي واحد من "أولاد الحلال" على مائدة قمار في ليلة واحدة.
لو كنت مكان السيد نظمي والظروف كذلك والاحتقان في ذروته، لقلت في المقابلة بعد التأكيد على حقي بها، إن كان هناك حق أصلا، أنني اتبرع بهذا المبلغ لصالح مدارس غزة او الضفة، فمثل هذا المبلغ بالتأكيد لن يسبب له أزمة مالية، ويدعو من هم في وضعه نفسه بأن يحذوا حذوه، ويتبرعوا بأقساط اولادهم وعلاجهم في المستشفيات الخاصة في عمان وعواصم أخرى، فيضرب عصفورين بحجر واحد.. كسب بياض الوجه كما يقولون، وتسديد هدف أصيل في شباك المنتقدين والحاقدين والحاسدين.. وزاود عليهم وعلى من يقف وراءهم (لأنه كما يبدو مستهدف). ولكن لله في خلقه شؤون.
السؤال الثاني الكبير والكبير جدا، الذي طالما حيرني ولم افلح في الحصول على إجابة شافية له: وهو ما الذي يدفع الأخ نظمي مهنا وغيره المئات وربما الآلاف من مسؤولي السلطة للإبقاء على أسرهم خارج "الوطن الحبيب".. واستعير من الأخ زياد ابو زيادة عضو المجلس التشريعي السابق تعليقا له على قضية السيد نظمي "إلى متى يظل الكثير من المسؤولين الفلسطينيين يقيمون في الاردن ويعملون في فلسطين كمغتربين؟". وأكمل أنا متسائلا "ألم تكن كل الحروب التي خيضت من اجل "تحرير الوطن والعودة اليه؟".. وإلا كما يقول المثل "كل ممنوع مرغوب".. كان الوطن حلما جميلا عندما كان صعب المنال وأصبح عبئا كبيرا عندما تحملنا جزءا من مسؤولياته.. الغالبية الساحقة تتمنى ولو زيارة قصيرة لفلسطين… أما نعمة العودة التي يرفسها غيرهم فتبقى بالنسبة اليهم اضغاث أحلام.
حقيقة لا اريد ان أظلم السيد نظمي بأي شكل من الأشكال.. فما أقدم عليه لا يعتبر فسادا بالمعنى التقليدي الكلاسيكي للفساد، وهو كما يقول إنه كان يطالب بحقه ضمن الأُطر الرسمية والقانونية.. واذا كان هناك فساد ففي النظام المالي الحكومي الذي يسمح بذلك في ظل الظروف المالية الصعبة جدا للسلطة.
لا اريد الخوض في قضـــية الفســــاد في السلطة في هذا المقال فطريقها شــائك جدا لا تتحمله بضع فقرات، وقد يوقعنا في مطبات قانونية لا قدرة لنا عليها. غير أن الفساد قائم في العالم الثالث كما في العالم الأول.. ووفق معادلة النسب والتناسب، تتفوق السلطة به بامتياز. ولو كانت هناك مسابقات فساد لربما حصدت السلطة المدالية الذهبية وفي أسوأ الحالات الفضية.
وأختم بالقول سقى الله أيام "الثورة" في ســــنواتها الأولى في الستينيات وأوائل الســــبعينيات عندما كان الواحد يوفر من مصروفه الخاص ويدفع من جيبه وهو الطالب المدرسي، اشتراكات العضوية لحركة فتح وشرف الانتماء للثورة. كنا ندفع ولا مردودا نتوقع..

٭ كاتب فلسطيني من أسرة "القدس العربي"

علي الصالح