أيديولوجيا القتل والعنف في الفكر الصهيوني… ودروس

بقلم: فايز رشيد

أصدر عدد من الحاخامات اليهود (الاثنين24 أغسطس الحالي) فتوى تنص كالآتي " اقتلوهم وأبيدوهم بلا رحمة للحفاظ على إسرائيل".هؤلاء الحاخامات شكلوا قبل عشر سنوات حركة أطلقوا عليها اسم "هسنهدرين هحداشا" (مَجْمَع الحاخامات الجديد). أسس هذه العصابة الحاخام عيدان شتاينليزتس، الحاصل على "جائزة إسرائيل" و"وسام الرئيس الإسرائيلي"، وهما يعدان أرفع الجوائزالإسرائيلية.

بداية.. ما هي الإيديولوجيا؟ هي عقيدة فكرية أي علم للأفكار.. أصبحت تطلق الآن على علم الاجتماع السياسي تحديدا، ومفهومها متعدد الاستخدامات والتعريفات، وهي منظومة من الأفكار المرتبطة اجتماعيا بالأسس الاقتصادية والسياسية، وتعبر عن المصالح الواعية.. انسجاما مع التاريخ والتطور الاقتصادي.. بالتالي فإن الإيديولوجيا تشكل تبلورا نظريا لشكل من أشكال الوعي.. والحكم على صحتها ينبع من مدى إنسانيتها وخدمتها لمفاهيم العدالة المجتمعية، والمساواة بين طبقات المجتمع .. وبين البشر عموما.

بالضرورة هناك أيديولوجيا إنسانية.. وأخرى لا إنسانية كأيديولوجيا العنف والقتل. من ناحية أخرى.. هناك العنف المجرم اللامشروع .. كالعنف والقتل الصهيوني. وعنف مشروع هو عنف المقاومة لحركات التحرر الوطني (الكفاح المسلح) ضد أعدائها من أجل الدفاع عن شعبها وحقوقه الوطنية وتحرير أرضها. هذا الذي يصورنه في الزمن الأغبر،"إرهابا". الكفاح المسلح شرّعته الأمم المتحدة بقرارين يحملان الرقمين 3034 لعام 1972 و3314 لعام 1974. الأمم المتحدة اعتبرت "أن الصهيونية حركة عنصرية وشكل من أشكال التمييز العنصري"، قرار رقم 3379 لعام 1975، معروفة ظروف إلغاء القرار عام 1991 بعد انهيار الاتحاد السوفييتي وتفرد أمريكا في الساحة الدولية، وظهورعالم القطب الواحد.

لطالما استرعتني قضية العنف المجرم، بالتساؤل كم من الحقد ينزرع في عقل ووجدان القاتل كي يقوم بارتكاب جريمته؟ هذا في حالات القتل الفردية… فما بالك بالدول؟ قرأنا عن سفاحين كثيرين في التاريخ كهتلر، موسوليني، جنكيز خان، إيفان الرهيب وغيرهم، لكن هؤلاء مثّلوا حالات فردية.. فالظاهرة التي مثّلها كل منهم في التاريخ، كانت قصيرة الأمد. فيما يتعلق بإرهاب الحركة الصهيونية وتمثيلها السياسي الإسرائيلي، فهو ما زال قائما على مدى يقارب السبعة عقود.. الفرق بينه وبين فاشية أولئك..أنه عنف مُعتنق (أيديولوجيا عنف) ليس من قبل زعيم أو بضع زعماء في الكيان، بل من غالبية الإسرائيليين.. فمثلا هناك إحصائيتان أجرتهما جريدتا "هآرتس" و"يديعوت أحرونوت"، تؤكد نتائجهما على أنه في عام 2025 النسبة المؤيدة لأحزاب المتطرفين الاصوليين الفاشيين من اليهود الإسرائيليين ستبلغ من 59٪ – 62٪. إن حرق طفل هو "ما بعد فاشية" فكيف يقدم عليها كائن بشري مُفترض أن له إحساسا ومشاعر؟

مقالات وأبحاث وكتب عربية وأجنبية كثيرة تناولت ظاهرة العنف والقتل الصهيونية وفي ما بعد كظاهرة إسرائيلية من زوايا مختلفة.. ومن أهم هذه الكتب "الحركة الصهيونية" إسرائيل كوهين، 1945. "الهدنة العنيفة" هاتشون 1958، "الاستراتيجية العسكرية الاسرائيلية" ويليام براد فورد، "الجذور الإرهابية لحزب حيروت الإسرائيلي" لبسام أبو غزالة. "الصهيونية والعنف.. الفلسفة والاستراتيجية" حسين الطنطاوي 1977. "ثقافة العنف في سوسيولوجيا السياسة الصهيونية" د.عبدالغني عماد 2001… ومن أفضل من كتب أيضا عن الموضوع نعوم تشومسكي، وقبل بضع سنوات.. كان كتاب "الصهيونية والعنف" للراحل عبدالوهاب المسيري.

العنف يعني ببساطة "التعسف والإفراط في استعال القوة ووسائلها"، وقد ارتبط في العصر الحديث بالحروب العدوانية واحتلال أراضي الغير واغتصاب إرادات البشر، وكتبَ إيف ميشو عن "العنف الجسدي"، وبيير بوردو عن "العنف الرمزي"، وهناك "العنف الفكري" أيضا.. ولقد عرف التاريخ البشري أشكالا عديدة من العنف تتراوح بين التجويع وصولا إلى القتل، ومن السمات المميزة للقرنين الزمنيين الماضي والحالي، أن الأول شهد، الحرب العالمية الأولى والثانية. وانتهت الثانية بالكارثة النووية (هيروشيما وناغازاكي)، والعديد من الإبادات الجماعية، وأشكال عنصرية واضطهاد، وحروب استعمارية وأنظمة عسكرية، ومعسكرات اعتقال وإجرام. بالطبع، ساهم التقدم التكنولوجي المعاصر في تطوير وسائل التسلح والقتل والإبادة الجماعية… وغالبية هذه الوسائل استعملتها عصابات الإرهاب الصهيونية قبل عام 1948، وبعد إنشاء إسرائيل نشر إيلان بابيه..مؤلفه "التطهير العرقي للفلسطينيين" إضافة لكتب كثيرة أخرى غيره. فمثلا جابوتنسكي التحق بعصابات الهاجاناه الصهيونية لقتل العرب والفلسطينيين، خاصة في القدس، وروّج لإقامة إسرائيل  بالقوة… ومن أقواله، "إن الاقتتال بالسيف ليس ابتكارا ألمانيا، بل إنه ملك لأجدادنا الأوائل، وقد نزل علينا من السماء".  بن غوريون آمن بالمذابح والفكر التوسعي، وترك حدود إسرائيل مفتوحة، وكان من مؤيدي مقاطعة العرب وطردهم من أراضيهم، هؤلاء كما غولدا مائير( التي تنزعج من كل صباح يولد فيه طفل فلسطيني).. كذلك ليفي أشكول ومناحيم بيغن، الذي يقول إن قوة التقدم في تاريخ العالم ليس السلام، بل السيف"، كما  شامير، بيريز، شارون، باراك ونتنياهو، دعموا بشدة التوسع في سياسة الاستيطان، وكانوا وما زال الأحياء منهم يعتقدون بأن الضفة الغربية هي "يهودا والسامرة"، وهي جزء من "أراض إسرائيل". رابين صاحب الأساليب الوحشية في "تكسير عظام" الفلسطينيين… وهو الذي تمنى "أن يصحو يوما ويكون البحر قد ابتلع غزة". معظم هؤلاء ارتكبوا مجازر بحق الفلسطينيين والعرب في عهودهم في رئاسة الوزراء.

إسرائيل حاولت أن تربط بين عُنفها والمقدّس.. أي أن تجعل من كل مذابحها وجرائهما بحق شعبنا وأمتنا.. مسألة مرتبطة بالإله… وهو الذي يبررها وفقا لمعتقدات الحاخامات التحريفيين.. بحيث تبدو مسألة ربانية.. ما على اليهود إلا اعتناقها وممارستها فعلا على الأرض. للعلم الدراسات العلمية حول مفهوم "المقدس" لم تتفق فيما وصلت إليه من نتائج، سواء تعلق الأمر بالمفهوم أم بالأصول، ولعل أحسن ما نحيل إليه في هذا الصدد، الموسوعة العالمية ((1998. يعزو الكاتب رينيه جيرار في كتابه الصادر عن مركز دراسات الوحدة العربية بعنوان "العنف والمقدس" نشأة نسبة فكرة المقدس إلى العنف، باعتباره نسق المقدس ونـظامه، إذ يقول "يجب أن نضع المحاكاة والعنف في أصل كل شيء لنفهم الموانع والمحرمات في مجملها". وعلى الرغم مما تحمله هذه الرؤية لمفهوم المقدس والعنف من اضطراب وتناقض، إلا أنها تستبعد على الأقل المقاربة الفرويدية القائمة على الدافع الجنسي، والاعتقاد الشائع بأن عقدة أوديب هي أصل المقدس والمبدأ الخفي لطقوسه القربانية. ("العنف والمقدس والجنس"، تركي علي الربيعو) ، ويستبعد الباحث التجاني القرماطي صحة هذه المقولة في بحثه المعنون بـ"المقدس والعنف" متسائلا كيف يمكن "أن يكون العنف أصلا للمقدس؟". لكن المعروف أن من أهداف المقدس في مظهريه العقائدي والطقوسي الحد من احتدام العنف وتفشيه في المجتمعات الإنسانية؟ يأخذ مفهوم المقدس لدى روجي كايو بعدا روحيا، إذ يبدو المقدس كمقولة حساسة، ينبني عليها السلوك الديني. من كل ما سبق وعلى هذا الأساس..تمثل النصوص التوراتية، والوثائق اليهودية، ومجمل نتاج الفكر الديني اليهودي في مراحل مختلفة من التاريخ، نموذجا فريدا للدوغمائية الصهيونية. بحيث لم يـكف الحاخامات اليهود عن تغذية تلك الأساطير القبلية المؤسسة للسياسة الصهيونية باستمرار(روجيه غارودي.. الأساطير المؤسسة للسياسات الإسرائيلية، وإسرائيل شاحاك.. الديانة اليهودية، التاريخ اليهودي.. وطأة ثلاثة آلاف سنة). بالتالي، أصبح العنف والقتل اليهودي للأغيار (غير اليهود) بالنسبة إلى المتدينين اليهود ذا مضمون عنصري استعلائي مقدس…."شعب الله المختار" وكافة المقولات التضليلية الأخرى. معروف أن السلطة الدينية والحاخامات يشكلون الحاكم بأمره في مصدر التشريع لليهود الإسرائيليين… بدليل ما قلناه في بداية المقالة.

إن ظاهرة العنف والقتل هي الأشّد خطراً في التاريخ اليهودي، منذ التآمر على النبي الكريم وعلى المسلمين منذ ولادة دينهم وصولا إلى اللحظة الراهنة، فالتعاليم المحرّفة للتوراة، التي صاغها الحاخامات اليهود وفقاً لمصالحهم، تنطلق من الذاتية و"الأنا" المطلقة، والعدوان على كل الآخرين، واحتقارهم. في سفر إشعيا تقرأ، "ليمت جميع الناس ويحيى إسرائيل وحده"، "يرفعك الله فوق جميع شعوب الأرض، ويجعلك الشعب المختار"، و"يقف الأجانب يرعون أغنامكم، أما أنتم – بني إسرائيل- فتدعون كهنة الرب تأكلون ثروة الأمم، وعلى مجدهم تتآمرون". لم تقتصر الأصولية اليهودية التاريخية السابقة على تحريف التوراة والتلمود على أيدي زعماء الطائفة من الحاخامات، الذين أنكروا على اليهود الحق في كل أنواع التعليم (باستثناء التلمود والصوفية اليهودية)، بل جاء الحاخامات المعاصرون "الحاليون" ليترجموا هذه العقائد إلى سياسات ممارسة بعد إنشاء دولة إسرائيل، "فيجوز قتل العرب حتى نسائهم وشيوخهم وأطفالهم"، و"العربي الجيد هو العربي الميت"، و"العرب ليسوا أكثر من أفاع وصراصير"، "يجوز قتل الطفل العربي حتى لو كان رضيعا"، "يجوز قتل النساء العربيات، حتى لو كنّ حوامل، من أجل منع إنجاب أطفال يلحقون الأذى ببني إسرائيل"، حتى فيما يسمى بـ"الأدب الصهيوني" فإنه وفي معظمه يعكس أيديولوجيا العنف ومن هؤلاء الشاعر شاؤول تشيرنيتوفسكي، الأديب برديشفسكي، الروائي ليون أوريس في روايته "الخروج").. هؤلاء وأمثالهم سوّغوا للصهيونية تبنيها لأيديولوجيا العنف، بالتالي نحن أمام عنف وقتل صهيوني…عسكري، سياسي، اقتصادي، ديني، ثقافي، اضطهادي – احتلال للغير، جرائم، مذابح، استيطان، حرق.. الخ… لذا فإن العنف والقتل أصبحا يستندان إلى أيديولوجيا في الفكر الرجعي الصهيو- إسرائيلي.

أما عن استنتاج الدروس مما سبق فيمكن القول إن دولة إسرائيل منتجة للعنف على الدوام ولا يمكنها التخلي عنه، وإن تخلت فهذا يعني طلاقها النهائي مع الصهيونية، ومن يراهن على ذلك هو بمثابة المسلم الحالم بأن يكون يوما بابا للفاتيكان لأن البعض يعتقد بإمكانية "أسرلة" الصهيونية أو "دولنتها" لتنسجم مع الوجود النسيجي الاجتماعي العربي بدوله كافة.. هذا مستحيل.. هذا أولا. ثانيا الشارع الإسرائيلي يقوم على مربع العنف، القتل، الاحتلال، الاستعلاء والتفوق العنصري.. الصفات السابقة لا يمكنها ولن تنتج سلاما مع الواهمين والحالمين به من الفلسطينيين والعرب. ثالثا القتل هو "ثقافة" وأيديولوجيا صهيونية مستمرة ومتطورة.. وهو نموذج معرفي وسلوكي في التعامل مع الأغيار. رابعا.. عندما تتخلى إسرائيل عن مشروعها الصهيوني في الوطن العربي والمنطقة عموما، سيتفكك حتما الغراء اللاصق لوحدتها الهشة والمتنافرة، المتمثلة في جملتين "أرض أكثر وعرب أقل" و"العداء للعرب" باعتبار الجملتين الأساس الضروري لوحدة الشارع الصهيو – إسرائيلي وأساس عدم التنافر مع المقولات التي بني عليها وجود إسرائيل كدولة. حري القول إن ما تقوم إسرائيل بتطبيقه.. هو عمليا قاعدة سارت عليها.. ما لم تأخذه بالعنف والقتل، ستأخذه بالمزيد منهما.

٭ كاتب فلسطيني

د. فايز رشيد