لا يمكن القول إن منظمة التحرير الفلسطينية الحالية هي منظمة التحرير التي أشغلت العالم ذات يوم قبل أن تبدأ بالانطفاء منذ أكثر قليلاً من عقدين، عند إقامة السلطة الوطنية التي استولت على معظم صلاحيات المنظمة وصادرت دورها، فقد تجسدت السلطة في مؤسسات حقيقية خدماتية أصبحت مع الزمن أكثر ضرورة وتماساً مع متطلبات وحاجات المواطن، فقد زاحمت المنظمة في كل شيء حتى في المفاوضات، المهمة الأولى المنظمة.
لكن ليس هذا السبب الوحيد لتراجع المنظمة وتآكل حضورها بل لأن الوضع الفريد الذي وجدت نفسها فيه أصابها بالارتباك إلى الحد الذي أصبح التساؤل عن دورها هو سؤال مشروع، ولكن بلا إجابة سوى أنها البيت المعنوي للشعب الفلسطيني، فقد كان دورها فاعلاً في إطار مشروع الكفاح والتحرير أشبه بجبهة التحرير الجزائرية ولكن بعد أن وقعت اتفاق مع إسرائيل ينص على أن تكون الوسيلة الوحيدة لحل كافة القضايا هي التفاوض انحسر هذا الدور، فلا بقيت جبهة تحرير ولم تنتقل لمؤسسة الدولة، فوقفت معلقة بين الاثنتين وأصبحت في منتصف الطريق، لا هي قادرة على استكمال مشروع التحرير بعد أن كبلت نفسها، ولا هي قادرة على القيام بدور مؤسسات الدولة بعد السلطة.
ما زاد من أزمة وتراجع منظمة التحرير طبيعة التكوين الداخلي وآلية تركيبها وشبه غياب تام للحياة الديمقراطية في ذلك التركيب والذي اعتمد منذ إقامتها على نظام توزيع الحصص بين الفصائل، هذا النظام كان طبيعياً في ذروة الكفاح والعمل المسلح، يتلاءم بما تقضيه ظروف العمل السري وغياب الجغرافيا وانعدام السيادة على الشعب كما كل حركات التحرر، ولكن بعد أن يتحول العمل إلى علني مع بعض الجغرافيا وسيادة على جزء كبير من المواطنين مع القدرة على إجراء انتخابات لا يعود النظام القديم قادراً على إقناع الشعب بآلية انتهت معظم أسباب وجودها.
السؤال الذي ألقاه الدكتور علي الجرباوي في ندوة مسارات للأسبوع الماضي متسائلاً إذا شاءت السلطة أن تقوم تحت الاحتلال وتتحمل كافة قيوده، ما الذي يجعل منظمة التحرير تنشئ مقرها الرئيس في رام الله وهي بذلك تتطوع بالهبوط بسقفها لشروط الاحتلال؟ وهو سؤال منطقي؛ لأنه بهذا تخضع نفسها لالتزامات حتى في تنقل قياداتها وذلك ربما يعيد سؤال الفصل بين قيادة السلطة وقيادة منظمة التحرير هل هو ممكن ؟ وهل هو أفضل أم بلا نتيجة؟ ينبغي البحث في ذلك.
لكن المنظمة بشكلها الحالي القديم الذي يتم تجديده بما يشبه عملية الترقيع تزيد من تبهيت صورتها أكثر فهناك ضرورة لعملية بناء حقيقية ربما تتطلب أساليب مغايرة فهناك فصائل كبيرة في المنظمة لها دورها ومشروعها وهناك فصائل أصبحت جزءاً من الماضي، فصائل حقيقية وأيضاً فصائل تراجعت حد الاختفاء وهناك فصائل جديدة نشأت، فقد شهد المجتمع الفلسطيني انزياحات هائلة في ربع القرن الأخير لكن منظمة التحرير الفلسطينية بقيت هامدة إلا من تغيرات شكلية في الطوابق العليا ولم تجد هذه الانزياحات ما يقابلها في المنظمة، فأعضاء الأمانة العامة لاتحاد الطلاب في نهاية العقد الخامس أو أكثر ولم يعد للاتحاد من دور أكثر من كونه دوراً تمثيلياً بعيداً عن ساحات الفعل الطلابي والتجنيد لصالح القضية كما كان الاتحاد ذات يوم الرافد الرئيس للقوة العسكرية وللتظاهرات والأنشطة والمعارض في العالم. واتحاد العمال أصابه الهرم ولم يتبق من اتحاد المرأة أكثر من العمل الفوقي والمقرات، ففي السبعينيات كانت نساء الاتحاد تجوب المخيمات الفلسطينية في الشتات والوطن، تقوم بنشر الوعي والتجنيد ومساعدة الفقراء وتعليم التطريز وتعليم النساء الاعتماد على الذات وإقامة مشاريع ومعارض.
كل ذلك لم يبق منه سوى الاسم والبيت المعنوي تتقاسمه فصائل بعضها لم يعد موجوداً سوى في اللجنة التنفيذية هذا يجعل من الحديث عن إجراء الانتخابات المجلس الوطني مطلباً ضرورياً، فمن يعرف أعضاء المجلس الوطني؟ من منهم بقي على قيد الحياة؟ من منهم بقي على قيود الوطن والموقف؟ وكيف يمكن لهذا التجمع أن يعيد انتخاب لجنة تنفيذية جديدة؟
إن في ذلك ما يخدش من شرعيتها فبالإمكان إجراء انتخابات في الضفة وغزة والقدس والأردن، وما تبقى يمكن إيجاد تسويات وقد تكون انتخابات المجلس الوطني مقدمة ربما لإعادة تعزيز ثقافة الانتخابات التي نسيها المواطن وربما تكون مقدمة لانتخابات السلطة ولإعادة تصويب ما أفسده الانقسام.
منظمة التحرير لم تنجز مهمتها بعد لذا يصبح أمر إعادة بنائها كمؤسسة قوية مطلباً وطنياً في ظل انسداد أفق التسوية وتراجع احتمالاتها وإنهاء المفاوضات، وتصبح أكثر ضرورة في ظل انزياح الشارع الإسرائيلي نحو التطرف وتشكيل حكومات يمينية لا تؤمن بالتسوية ولا بالتفاوض، انقلبت على أوسلو وكل ما جاء فيه وداست بنوده، حينها يصبح التفكير في نهاية السلطة أمراً جدياً تفرضه تطورات الواقع وبالمقابل فإن إعادة تعزيز المنظمة أمر ضروري تفرضه تطورات الواقع وتستدعيه لحظة الاختناق الوطني.
منطق الأشياء أن تبقى منظمة التحرير وأن تكون أكثر قوة وأن يعاد بناء مؤسساتها، ما يضمن تلك القوة والكفاءة وأولها المجلس الوطني الهامد منذ عقود، فقد تمت توسعته قبل عقدين ليصبح الرقم من حوالي 400 إلى 714 عضواً .. حتى الآن توفى منهم ستون عضواً وفي رقم آخر مئة وربما شاخ مئات آخرون.
منظمة التحرير بحاجة إلى عودة الروح لمؤسساتها الثقافية والتعليمية والمالية ودوائرها ولجانها فلا يعقل أن تغيب كل تلك السنوات.
النقاش انفتح الآن بعد تقديم الاستقالات الجماعية ليفتح السؤال على جلسة المجلس طارئة أم عادية؟ ولماذا الآن؟ وما الهدف؟ كل هذه التساؤلات مشروعة في ظل الملاحظات الكثيرة للفصائل والمراقبين والمثقفين على ما يحدث وكيف تتم عملية الفك والتركيب بشكل فوقي دون أن تذهب بالإصلاح الذي يطالب به الجميع حد النهاية، إصلاح يبدأ من القواعد والمؤسسات والنقابات والاتحادات .. فمن يعرف أن آخر مؤتمر لاتحاد الطلاب انعقد عام 91 ويمكن القياس عليه .. هذه المؤسسات هي من أضعف منظمة التحرير التي نريدها قوية شابة متجددة لأنها بيتنا المعنوي ولأننا في منتصف الطريق .. هي من نقل قضيتنا إلى العالمية وحولها من قضية إنسانية إلى قضية سياسية، ويبدو أن طريق المفاوضات مع إسرائيل لا تزال طويلة وتحتاج إلى بناء على أسس مختلفة تضمن عودة الروح والحياة كما قال طه حسين ذات يوم في إحدى رواياته ..!
أكرم عطا الله
30 آب 2015