الكل ترك المخيم وازقته في حينه ... وان كان الخروج مشرفا والبنادق مشرعة ... والبحث عن المنفى الجديد لتكون العودة الآمنة الى المخيم بعد المجزرة ... صبرا نامت بين احضان الجثث وعلقت تعويذتها ... والامل بامل باستكمال فصول المجزرة ولو بعد حين .... وصار الذبح عادة احترفتها شاتيلا ليصار الى تصفية الحسابات بالحواري، بعد سنين ليمارس التقتيل مرة اخرى لمن حاول ان ينهض نهوضا مبكرا ...
القتلى كانوا يحلمون بليل هادىء بعد ان غادرالاحبة وكان وداعهم جزءا من بروتكول الرحيل وعادوا ليحلموا بدرب الالام وهم موقنون ان ما وراء رحيل الرجال المقاتلين رحيلا نحو الخلود ... حاول القتلى ان يموتوا بهدوء وتجمعوا بالطرقات والازقة بشكل جماعي حتى يكون الموت رحيما ...
ما زالت صرخاتهم ترتد حتى اللحظة بضرورة مطاردة الذابح والقاتل ومن كان يحرس الجريمة ومن كان يسترق السمع لضجيج القتل عن بعد ... والمطاردة هنا تعني المطاردة وبكل الاشكال والاساليب المتاحة وغير المتاحة ...
وحده من حمل الامانة والالم الثكالى والقصة والحكاية ... وكان صوته جميلا وغرد خارج السرب ... وحده من ملأ الدنيا ضجيجا ... وحمل رسالة القتلى والمنبوذين من الحياة .... وحده ابن المخيم من طارد ويطارد القتلة بكل الامكنة واصبح ايقونة للحرية وللحياة ان استطاع الى ذلك سبيلا وتحول الى لعنة على كل من مارس فعله الدنيء بحق ابناء الارض السمراء ومن اصبح فيما اصبح عنوانا للفشل وقد اضحى تاجرا على حساب الدم ...
والدم بالدم والرأس بالراس ايها السادة الممثلين لمن هم يعيشون تحت مستوى البشر وانتم تعلمون ... ذاك المشرد بين المخيمات المختفي خلف الجدران والمجاهر بالحقيقة ... كان الشاهد على الذابح منذ البدايات والمستمع لعويل النساء المغتصبات والمبقورة بطونهن ... والكل تبرأ منه حتى العواصم لم تحتمل رمزيته واضحى المطارد من اشباحهم .... وصار تعويذة الفقراء... وبطل المحرومين المنتظرين للإستظلال بفيء شجرة زيتون ما زالت رابضة على تلة من تلال الجليل... صار روحا تتجسده كل الأجساد المتعبة والمحرومة من شبق اللحظة، وعبق العطر المقدس المنبعث من قطرات الندى الصباحية ببلاد العشق والهوى والكثير من الإنكسار...
صار ممزوجا بتراب الأرض العطشى للهو عاشقين يصعدان الجبل للاستكانة بمغارة لا تستقبل الا من يرتل مزامير أبجديات كنعان من جديد... صار أريج البراري المعطرة بنسائم الأقحوان وشقائق النعمان... صار أيقونة قدسية معلقة بأعناق حراس وسدنة الحلم الذي سيكون.... صار المخلص، المحلق في عنان سماء المنتظرين عطاءات سنابل القمح المتطلعة نحو الشمس... وصار نجمة مضيئة في فضاء حقائقنا لترشدنا دوما تجاه بوصلة لا تنحرف...
صار رمزا لتوق الأحرار لثورة تغتال الظلم... صار رقما صعبا في حسبة الأرقام، وبمعادلة الأشرار... وصار مفردة من مفردات التبشير بالقيامة من جديد لجموع السجد الركع بحضرة النخيل ببلاد الرافدين.... ومعزوفة على قيثارة الزمن الرديء يتردد صداها في حواري القاهرة، قاهرة طفولة الحواري المتمرغة بأوحال النيل والوسخين من غبار عبث العابرين أزقة الفاطميين الأولين، صار نبيا يتصدى لفراعنة العصر الجديد.... وكلمة سحر تلقيها جميلة صارخة الجمال في صحاري تيه وهران، ولربما أيضا يتراءى أكثر بهاء بلوحة من لوحات جسور قسنطينة ما بين وريقات رواية القادمة من احلامها... صار أهزوجة تغنيها سمراوات النوبة حينما يشتد الشوق لحكايا العشاق الفقراء... صار لعنة على قتلة المرأة المتمردة بأزقة بغداد... كان الشاهد والصابر والصامد في شارع الحمرا ببيروت حينما كان لاسمه ذاك الصدى المرتد عن جدران ضجيج المعارك... وعندما تصدى لبساطير الغزاة، وتصدى لعويل المنتفخين تكرشا، وتجار الحزينة بيروت بذاك الصباح حينما كان الوداع لرذاذ الموج المتكسر على صخرة الروشة... وكان الشاهد عن الموت الفعلي لما يسمى بالضمير الانساني حينما قتل من قتل بازقة الجنون بصبرا وشاتيلا ومطاردة الضحية لتقع بين انياب التنين كوجبة شهية دسمة بعد ان يكون الاغتصاب ....
للقتل حكاية اخرى وصور اخرى .... ولصبرا وشاتيلا قصة اخرى لم ترو بعد ...قصة شعب ما زال تائها يبحث عن نفسه .. ولا فرق يتبدل الموت عليه فمرة قتلا بالرصاص ومرة قتلا بالقهر ..فشعب لم يعد يملك بندقية الثائر عاد من جديد ليواصل التهجير والكثير من القتل والتقتيل ويبقى ابن المخيم المقتول ايضا الشاهد الشهيد ... والرواية مختلف عليها لكنه الوحيد القادر دائما على روايتها بالشكل الصحيح ....
ولفاطمة ان تزغرد وترقص رقصة اليائسة بحواري المسمى مجازا بالوطن ... بعد ان كانت المصافحة ليد القاتل وان تكون اللقاءات البروتوكولية جزءا من ضرورات المرحلة ولا اقصد هنا القاتل التقليدي القابع هنا بجوار المسجد والبيت العتيق بل ذاك الساكن بجوار صبرا وشاتيلا والشمس تشرق اولا على بيته وفنجان قهوته يحتسيه صباحا من اطلالة على ازقة المخيم ويشاهد المشوهين الذين ما زالوا يحيون ببقايا المسمى بالمخيم ....
اختار الرحيل بعد ان رحل ابناء المخيم وكان له ان اختار ايضا شكل رحيله فاراد ان يكون المقتول فوق اوراقه البيضاء حتى يستوي مشهد الذبح ما بين شاتيلا وعاصمة الضباب ...
وبالتالي اصبح وكان وصار الرمز للجنوبين الملتصقين بشمال الجليل، وصار طقسا من طقوس سادة البنادق بتموز، وكتابا في جيب السيد الكربلائي ذي العمامة السوداء...
صار شامخا مرتسما بقاصيون الدمشقي وعلى نغمات التراتيل الجولانية نسمع صوته الهادر للعودة المظفرة وللعزة الآتية...
صار حلم عذارى القدس بأن يكبر ويأتيهن عند أول الليل حينما يشعلن النار لاستقبال الغيارى من رجال سطروا كلماته فعلا وقولا بليغا فصيحا...
صار المعنى الأهم لشباب بكرمل الحيفا، يعرفون أن ثمة طفلا كان ينظر دوما نحو المكان ليعود يوما، ولا بد لهم من أن يهيئوا أمكنة لتلك العودة....
صار عربيا ناطقا باسم الجمع دون أن يجيد لغة الخطابة وقواعد النحو والأدب... أو فنون الكلام، وليس له سابق معرفة بالتوازنات الديبلوماسية أو بدروس الكياسة وفن التعامل مع نساء الغرب أحيانا...
أعلن تحيزه منذ البدايات ونطق باسم الوسخين، انتمى لكل الأديان ولكل العابدين المتضرعين بحضرة الإيمان، وتعلم معنى أن تكون الإنسان أولا، وأن تكون الأوطان أولا، وأن تدوس على الكبار في علب الليل الحمراء، وأن تعلن عن هويتك.. ومن أنت... ومما تتكون... وماهية أحلامك... وليكن من بعد ذلك كل الطوفان، وكل الحرب، وكل الجبروت، وكل كواتم الصوت، فلن تغتال أحلامك وأحلام الفقراء....
عرفوه بكل الأمكنة... وعلموا عنه قضية شعب لا يستكين ويحارب الظلم القادم من شمال الشمال.. وعلم العالم من نكون دون اجتهاد بالسفر أو إجادة للغة الأخرين، نقش وصاياه مبكرا، فقد كان يعلم أنه سيترجل مبكرا ليصنع من بعده حكاية الرمز، وأسفار التكوين لشعب يُبعث من جديد وسط أدخنة حرائق غابات اللوز والتين والزيتون، فقد كانوا يظنون أن تلك الغابات ستحاربهم أيضا، وحينما اقترب الرحيل تحرك الناظر دوما للأمام ولخلف المُنتظر تجاه حجارة الأرض، فقد عرف سر حجارة الأرض وكيف ستؤتي ثمارها بيد أطفال كانوا ينظرون وينتظرون كما هو دائما ينتظر الناظر دوما...
فقد صار الحنظلة تعويذة لكل الفقراء ولكل المحرومين ولكل الثوار في بلاد الجنوب والمسافرين بمواسم الهجرة نحو شمال أحلامهم....
هكذا كان وهكذا سيكون.... وسيبقى الاسم الملاصق للعلم معلقا بأعناق العذارى والغيارى... فيا سادة القتل هل تعلمون و تعرفون من كان..؟؟ وبقتلكم وذبحكم لأنصار الحب لن تهدأ ثوراتهم... ويا قادة التطبيل والتزمير أوقفوا ولو قليلا ضجيج أصواتكم، وارحلوا.... فقد صار الحنظلة مايسترو أغانينا التي نرددها ونحفظ معاني بواطنها... ونطرب على ايقاعات موسيقاه... وصرنا كما نحن نستشعر أوطاننا ونتوق إليها ونحن نحيا في كنفها كمن هم الغرباء... نناجي سماءها وعشبها ومطرها وربما أيضا سنعلق الحنظلة بعنق الوطن ليشهد العالم أن للفقراء ما زال مكانا تحت السماء فهل تسمعون...؟؟؟
يونس العموري