المتتبع للسياق التاريخي لملف اللاجئين الفلسطينيين منذ العام 1948 ، نجد أن هذا الملف قد تعرض إلى كثير من محاولات الاستحواذ والتنكيل والتفخيخ وحتى التفجير ، منها ما نجح ، ومنها يُعمل على إنجاحه تبعاً للتطورات والظروف الحاكمة . صحيح أن هذا الأمر استلزم جهود كبيرة من أجل انجازه دفعة واحدة عبر رؤية دولية لقوى استعمارية أجمعت على أن الخلاص والتخلص من هذا الملف سيبقى يُشكل مصدر قلق وجودي لكيان زُرع بالحديد والنار وقوة الاغتصاب ، إذا لم توجد الحلول للاجئين الفلسطينيين من خلال دمجهم اقتصادياً في مجتمعات الدول التي وصلت أقدامهم إليها القريبة والبعيدة منها ، لذلك أوكلت مهمة الأمر لمنظمة الانروا التي سعت جاهدة لتحقيق الهدف ، ولكن من دون جدوى ، فعمدت الدول المانحة وبخطوات تصاعدية على تخفيض مساهماتها المالية للانروا ، التي انعكست مباشرة على التقديمات التي تعتمدها في الطبابة والتعليم والإغائة وغيرها . وعندما وقع على اتفاق " أوسلو " عام 1993 ، وتم ترحيل العناوين الأساسية بما فيها موضوع اللاجئين إلى مفاوضات الحل النهائي التي اتفق على بدأها بعد 5 سنوات من التوقيع على الاتفاق ، أي في العام 1998 . وضعت الدوائر الدولية النافذة ، بالتوافق مع الكيان الصهيوني سقفاً زمنياً لإنهاء عمل منظمة الانروا - " الشاهد الحي على قضية اللاجئين الفلسطينيين " – على اعتبار أنها قد استفذت مدة عملها منذ زمن بعيد حتى ما قبل " أوسلو " ، لذلك نلاحظ أن من بين كل المنظمات الدولية التابعة للأمم المتحدة ، الانروا وحدها التي لم تخصص لها موازنة سنوية ثابتة . والجدير ذكره أن الولايات المتحدة الأمريكية منذ العام 1993 تمتنع عن التجديد للقرار 194 ، تحت حجة واهية مفادها أن الإدارة الأمريكية تمتنع عن التجديد ، حتى لا تبدو متدخلة في المفاوضات الفلسطينية – " الإسرائيلية " ، ولا تريد أن تؤثر على هذه المفاوضات من موقع أنها الراعي وليست طرفاً إلى جانب أحد الطرفين المتفاوضين . وعندما تعثرت مفاوضات الحل النهائي في العام 1998 لأسباب " إسرائيلية " ، وليست لأسباب فلسطينية ، دخلت مرحلة إنهاء عمل الانروا حيز التنفيذ وفق تسلسل زمني ممنهج ومتدرج ، وهذا ما نعايشه في هذه المرحلة .
وعلى خط موازي تلك الدول النافذة وبتطابق وتوافق تام مع " إسرائيل " ، ودول في الواقع الإقليمي ، عملت ومنذ زمن بعيد ، وفي خطوات استباقية من أجل إنهاء ملف اللاجئين حتى ما قبل " أوسلو " ، حيث مثلت مجازر أيلول في الأردن عام 1970 ، المنعطف باتجاه العمل على إنهاء هذا الملف إما تذويباً ب" معنى الدمج " ، أو تهجيراً أو توطيناً . لنجد الثقل الإستراتيجي للفلسطينيين في الأردن قد جرت له عملية دمج تدريجي على طريق التذويب ، حيث يُشكل الفلسطينيين 42 بالمائة من مجمل الشعب الفلسطيني ، وهناك أكثرمن مليونين يحملون الجنسية الأردنية ، وأيضاً ما يزيد عن المليون يحملون الوثائق الأردنية . وكرت سبحة إجهاض حق اللاجئين في العودة إلى ديارهم بعد ذلك ، فقد تعرض اللاجئين الفلسطينيين في لبنان ، وكنتيجة مباشرة للاعتداءات الصهيونية ، والمجازر المرتكبة بحقة في تل الزعتر والكرنتينا وصبرا وشاتيلا ، وما شهده لبنان من حرب أهلية مدمرة عام 1975 ، إلى عملية تهجير واسعة بلغت وحسب إحصائيات غير مدققة إلى أكثر من مئتي وثمانين ألف لاجئ ، وإلى تدمير عدد من المخيمات . وعلى خلفية تأييد م . ت . ف ورئيسها آنذاك الراحل عرفات احتلال العراق لدولة الكويت عام 1990 ، وحرب الخليج الثانية عام 1991 ، أقدمت الكويت على طرد 450 ألف فلسطيني كانوا يقيمون فيها . وبعد احتلال العراق من قبل الولايات المتحدة الأمريكية عام 2003 ، وسقوط نظام الرئيس صدام حسين ، هربت الغالبية العظمى من الفلسطينيين الذين كانوا يقيمون في العراق خوفاً على حياتهم من البطش والانتقام ، في ظل الفوضى العارمة التي عاشتها المدن العراقية بسبب الاحتلال الأمريكي . وعام 2007 شهد مخيم نهر البارد في شمال لبنان معارك ضارية بين الجيش اللبناني وتنظيم ما يسمى " فتح الإسلام " ، الذي دخل المخيم وأقام فيه مواقع ومراكز عسكرية ، مكنته من الاعتداء على الجيش اللبناني المتوضع على المداخل الرئيسية المؤدية للمخيم . وبنتيجته دمر المخيم وشُرد جميع سكانه البالغ عددهم ما يزيد على 32 ألف ، وإلى اليوم لا يزال جزء كبير من سكانه خارج مخيمهم ومنازلهم ، يعانون من عدم الانتهاء من إعادة الإعمار للمخيم ، وتوجهات الانروا وقراراتها التعسفية في رفع حالة الطوارئ عن المخيم وأهله . وفي سورية حيث الأحداث التي تعصف بها قد دخلت عامها الخامس على يد المجموعات المسلحة وعناوين مشغّليها من جهات إقليمية ودولية ، ومؤكد أن " إسرائيل " ليست بعيدة عن ذلك . تتكرر مأساة الفلسطينيين المقيمين فيها منذ النكبة عام 1948 ، حيث عوملوا إسوة بالمواطنيين السوريين في كل شيء ما عدا حق الانتخاب والترشح واكتساب الجنسية . على يد المجموعات المسلحة التي أقحمت عن عمد العامل الفلسطيني ومخيماته من خلال الدخول إلى العديد منها في درعا ودمشق وريفها وصولاً إلى حلب . وكان الأبرز بين كلّ هذه المخيمات ، مخيم اليرموك الذي سقط بيد المسلحين أواخر العام 2012 ، وهو المخيم الأكبر من حيث المساحة وعدد السكان الفلسطينيين . فقد دفعت هذه الأحداث والمعارك المُشنة على الشعب والدولة في سورية ، من قبل تلك المسميات المسلحة ، أكثر من 200 ألف فلسطيني إلى مغادرة القطر العربي السوري إلى المغتربات ودول الجوار وتحديداً لبنان .
ومنذ مدة ليست بالبعيدة ، وعلى وقع ما تشهده المنطقة من أحداث كبرى ، يشهد مخيم عين الحلوة ( عاصمة الشتات الفلسطيني ، وعنوان حق العودة ) ، بين الفينة والأخرى أحداث دموية تمثلت في الاغتيالات التي نفذتها بعض المجموعات من خارج الفصائل الوطنية والإسلامية الفلسطينية ، والتي تتخذ من بعض الشوارع والأزقة في المخيم موطئ قدم وتواجد لها . وما شهده المخيم خلال الأيام الماضية من معارك ضارية يمثل الحلقة الأخطر في مسلسل تدمير الذات الفلسطينية ، عبر إستنزافها بكرات النار التي طالت هذه المرة كل أحياء المخيم الذي يسكنه ما يُقارب أل 100 ألف نسمة ، مما اضطر غالبية سكانه إلى مغادرته باتجاه صيدا ، هرباً من حجيم لهيب النار التي لن تبقي ولم تذر إذا ما استمرت في ظل غياب الحلول ، التي فشلت المبادرة التي تم التوقيع عليها قبل قرابة العام والنصف ، من قبل جميع الفصائل الوطنية والإسلامية ، ومن قبل مجموعة ما تسمي نفسها " الشباب المسلم " ، في تأمين الأمن والأمان للمخيم وأهله ، وتحميه من خطر الانزلاق نحو الكارثة الشبيهة بكوارث من سبقه من المخيمات . ونهر البارد واليرموك نموذجاً لهذه الكارثة الوطنية نحو المزيد من خسارة ديمغرافيا الشتات الفلسطيني نحو المجهول المؤدي حتماً إلى إسقاط المزيد من القلاع التي يتحصن خلفها حق العودة وقضية اللاجئين .
خطورة ما يجري في مخيم عين الحلوة ، أن أحداثه تأتي في وقت يمر فيها لبنان بأخطر منزلق سياسي واجتماعي وإقتصادي ، وقد يتدحرج نحو الأمني . فما يشهده لبنان لا يستطيع أحد أن يتكهن إلى أين يسير ، وعلى ما سيكون المشهد السياسي في الغد ، وما إذا استمرت خارطة التحالفات السياسية تبعاً للتطورات . مشهد لبنان الآن أشبه باللوحة الشهيرة " الموناليزا " ، فهي باكية وضاحكة في آن تبعاً لناظريها وكل من موقعه . وأحداث عين الحلوة تقع أيضاً في ظل انقسام سياسي فلسطيني حاد ، على الرغم مما يشيعه مشهد التوحد للفصائل في لبنان في خطوة تحاول جاهدة تجاوز هذا الانقسام لصالح أمن وأمان المخيمات ، ولكن الأحداث الأخيرة وإن كانت الفصائل الوطنية والإسلامية تلتقي وتؤكد حرصها الشديد على عدم الانزلاق نحو هاوية الاقتتال في المخيم ، إلاً أن وحدة الرؤية في كيفية التعاطي مع أحداث المخيم ، وكيفية وضع حد نهائي لها من خلال المعالجات المستدامة لا الآنية ، مؤسف القول أن ذلك لم يتحقق ، لسبب بسيط أن الثقة بين الفصائل على مختلفها ومسمياتها لا تزال بعيدة ، على الرغم من الابتسامات التي تظهرها الصور وشاشات الفضائيات وكثرة البيانات في وسائل الإعلام .
وختام القول إذا لم تُدرك المرجعيات الفلسطينية في لبنان ، معززة بجهود القيادات المركزية في كل من المنظمة والتحالف ، ومعهما السلطة ، فإن مخيم عين الحلوة يسير نحو الانزلاق على طريق سقوطه ، الذي سيترك في تداعياته الخطيرة على مجمل الوضع الفلسطيني في لبنان ، وبما تبقى من مخيماته ، لما يمثله مخيم عين الحلوة في هذه المرحلة من ثقل إستراتيجي هام في معركة اللاجئين الفلسطينيين في مواجهة المحاولات العاملة على إسقاط حق العودة ، الذي يتعرض جدياً إلى الشطب عبر إلغاء وإنهاء الانروا كشاهد على نكبة الشعب الفلسطيني ، وبالتالي المبادرات السياسية التي تؤكد في مجملها على إيجاد حل عادل لقضية اللاجئين من خلال التعويض ، لا من خلال تطبيق القرار 194 ، وليس آخرها المبادرة الفرنسية ، في ظل الحديث عن مشروع قرار موجود على طاولة الكونغرس الأمريكي حول إعادة تعريف اللاجئ الفلسطيني ، بمعنى أن اللاجئ هو من خرج فقط من فلسطين عام 1948 . فعلى مصير مخيم عين الحلوة ، يتقرر مصير اللاجئين الفلسطينيين .
رامز مصطفى