بعد أن توقف الجدل الصاخب الذي انخرطت فيه خلال الأسابيع الثلاثة المنصرمة، كل الفعاليات السياسية والاجتماعية، بشأن انعقاد المجلس الوطني الفلسطيني، يصبح المطلوب من كل هذه الفعاليات أن تراجع دروس هذه التجربة القصيرة ولكن الغنية باستخلاصاتها.
التأجيل الذي أعلنه رئيس المجلس الوطني الأخ أبو الأديب، إثر مذكرة قدمها إليه ستة عشر عضواً في اللجنة التنفيذية، يطالبون فيها بالتأجيل لثلاثة أشهر، هذا التأجيل لا يمكن تفسير أسباب قبوله بناء للمبررات التي وردت في المذكرة، بالرغم من أنها مبررات وجيهة، وتنطوي على وطنية عميقة وصادقة.
بصراحة، الرئيس كان مصمماً على متابعة السعي نحو عقد جلسة عادية للمجلس الوطني، بعد أن أصبح متعذراً لأسباب قانونية عقد جلسة استثنائية أراد من انعقادها انتخاب لجنة تنفيذية جديدة.
في مقال سابق استبعدنا أن يكون الهدف من انتخاب لجنة تنفيذية جديدة، إزاحة معارضين، ولكننا استبعدنا، أيضاً، أن يكون الهدف التغيير والتجديد، الذي تتطلبه إجراءات تجديد في المسار والخيار، والاستراتيجية والبرامج والأدوات، واستبعدنا، أيضاً، أن يكون الهدف رغبة الرئيس في تعزيز سيطرته على القرار، إذ ان وضع اللجنة التنفيذية الحالية لم يكن قيداً على الرئيس.
إذاً فالمطلوب هو البدء بإجراءات التحضير لمرحلة ما بعد استقالة الرئيس في حال ظل مصراً عليها، وطالما أن الظروف لا تتيح إجراء انتخابات رئاسية وتشريعية عامة، لا أرى الآن الحديث في دواعي هذا الاستنتاج، فبعض منها تشير إليه بعض المواقف المعلنة، وبعضها الآخر لا يزال خفياً، والأيام ستتكفل بالإفصاح عنها.
حين قرر الرئيس اللجوء إلى المجلس الوطني عادياً كان أم استثنائياً لا بد أنه وضع في اعتباره، ردود الفعل من قبل الفصائل الفلسطينية المعارضة من خارج المنظمة والمعارضة من داخلها، وربما أيضاً ردود فعل الفعاليات الفلسطينية الثقافية والاجتماعية والسياسية كما ظهرت خلال الأسابيع الثلاثة الماضية.
قراءة هذه الخارطة مسبقاً، كانت تعني أن الرئيس مصمم على متابعة مساعيه نحو انتخاب لجنة تنفيذية جديدة، الأهم فيها الشخصيات الجديدة التي ستدخل ضمن كوتة حركة فتح، وأحدها سيكون المرشح لمرحلة ما بعد الاستقالة.
أظن أن أهم الأسباب التي تقف وراء التأجيل، وكان بإمكان الرئيس أن يواصل لو أنه أراد، هي من وجهة نظرنا الآتية:
السبب الأول وليس بالضرورة الأهم، هو ما ظهر من شبه إجماع فلسطيني على ضرورة التأجيل، إجماع لا يخفف من أهميته أو تأثيره تأييد عدد ليس قليلاً من أعضاء اللجنة التنفيذية، فمع احترام لهذا العدد إلاّ أن الوزن السياسي والتنظيمي والشعبي لهذا العدد ضعيف ولا يحمي قراراً من هذا المستوى.
السبب الثاني، ظهور معارضة قوية من داخل حركة فتح، وبدون الاستناد إلى التسريبات والشائعات، فإن عباس زكي عضو اللجنة المركزية للحركة عبّر عنه بطريقة مباشرة ووطنية حين قال إن اللجنة المركزية لفتح تتوافق مع القضايا الخمس التي وردت في خطاب رئيس حركة حماس الأخ خالد مشعل وعبر من خلالها عن رأي الحركة في موضوع انعقاد المجلس، ورؤية الحركة لأولويات وآليات التغيير في الوضع الفلسطيني.
ثالثاً، ثمة اعتقاد قوي بأن الولايات المتحدة، وربما جهات دولية أخرى أبدت للرئيس محمود عباس، حذرها، وعدم رغبتها في تغيير الوضع الفلسطيني، أو الفلسطيني الإسرائيلي.
وبدون تحميل المسألة أكثر مما تحتمل، فإن الحراك السياسي الذي شهدته الساحة الفلسطينية مؤخراً، ينطوي على حالة من التردد والقلق وعدم الاستقرار، ما يشير إلى أن المرحلة التي يحضر لها الرئيس عباس، قد تشهد حالة من عدم الاستقرار، والاضطراب في الوضع الفلسطيني، ما قد يؤدي إلى تغييرات دراماتيكية لا تخدم مصالح الولايات المتحدة وإسرائيل. على أن ما جرى خلال الأسابيع الثلاثة الماضية، على قصر المدة الزمنية يستدعي التوقف والتفكير في طبيعة وأبعاد الحراك السياسي، بما في ذلك آليات اتخاذ القرار الفلسطيني، والأولويات المطروحة والتي تفرض نفسها على الكل الوطني، خاصة وأن هذه الأيام شهدت كثافةً وتنوعاً في النشاط السياسي الداخلي.
من ضمن هذا المشهد، ينبغي ملاحظة أن ثمة إمكانية كبيرة لتوافق وطني حول سبل الخروج من هذه الأزمة، تتقاطع فيه خطوط تبدو متوازية، وربما هناك من يرغب في أن تظل متوازية، رغم أن الظروف تؤشر إلى إمكانية التقاطع، ونقصد هنا ما يؤشر إليه تصريح الأخ عباس زكي، بخلاف ما أشار إليه زميله في اللجنة المركزية لحركة فتح عزام الأحمد الذي أقفل إمكانية انعقاد الاطار القيادي المؤقت للمنظمة.
في هذا الاطار، أيضاً، ثمة ما ينبغي على فصائل اليسار أن تتعلمه وتستفيد منه وهو أنها تحوز إمكانيات كبيرة للفعل والتأثير، لكن هذا يمكن أن يتضاعف في حال نجحت هذه القوى في أن تجد لنفسها صيغة أو اطاراً للعمل المشترك.
ولكن بغض النظر عن كل ما يمكن أن يقال من باب التشكيك والسلبية أو حتى لو كان ما يقال حقيقياً عن أن حماس لا مصلحة لها في المصالحة، أو انها هي من يتحمل المسؤولية عن تعطيل عمل حكومة الوفاق، فإن ما طرحه رئيس الحركة الأخ خالد مشعل يستحق التوقف والتعامل الإيجابي.
لقد طرح مشعل خارطة طريق، ربما ليست جديدة، ولكنها تعود وتؤكد الوجهة التي تتبناها أغلبية القوى والشخصيات الوطنية من أن المخرج يبدأ من انعقاد القيادة المؤقتة، والتي فيها يمكن أن يجري حوار حقيقي للتوافق على استراتيجيات جديدة، والاتفاق على آليات إنهاء الانقسام الفلسطيني. بعد تأجيل المجلس الوطني، لا بد من حراك سياسي، يملأ الفراغ، ومن لديه أية مبادرات أخرى، فليتقدم بها، فالحراك الذي نشأ، هو حراك إيجابي لا بد من استثماره وعدم تبديده بالعودة إلى لغة الاتهامات والاستفزاز أو اللجوء إلى الجمود.
طلال عوكل
10 أيلول 2015