تتمتع دولة إسرائيل بكل الصفاقة والهمجية التي لا تتمتع بها الدول المحترمة، والتي لا تختلف بها عن أية جماعة إرهابية أو متطرفة، يمكنها في لحظة عابرة، أو على حين غرة، أن تسيطر على منطقة ما، تتحكم بسكانها ومواطنيها، كما لو كانوا "حيوانات" أو حشرات، أو ما إلى ذلك، فحتى لو كانت القدس "مدينة" إسرائيلية، وحتى لو كان المسجد الأقصى ضمن أماكن العبادة الدينية أو ضمن "ممتلكات" الدولة الإسرائيلية، فهل يعقل أن تمارس الدولة أو الحكومة رسميا ما يستفز مشاعر أو ما يسيء إلى معتقدات "الأقلية" من مواطنيها؟!
يتفاقم الأمر ليصل إلى حدود ومستوى الجريمة بحق الإنسانية، حين يتعلق الأمر بالقدس والمسجد الأقصى، ليس فقط لأن القدس مدينة مقدسة عند نحو 40% من سكان العالم، وليس لأن المسجد هو ثالث حرمي وأول قبلتي المسلمين الذين يعدّون نحو ملياري ونصف المليار إنسان في العالم، ولكن لأن القدس، بما فيها الحرم الشريف، هي مدينة محتلة منذ الرابع من حزيران من العالم 1967، ولا يحق لإسرائيل ولا بأي حال من الأحوال ولا بدافع أية ذريعة أو ادعاء أن تغير فيها شيئا.
لقد كان مشهد اقتحام قوات الاحتلال بالقنابل الدخانية وبإطلاق النار الحي لتصيب أكثر من مئة مصل، متعبد ومسالم في بيت الله، مشهدا لا يضاهيه في بشاعته مشهد حرق هولاكو لمكتبة بغداد، وعمليا فان هذا المشهد بالذات يختصر ويلخص نحو خمسين عاماً من الاحتلال الإسرائيلي البغيض لأراضي وعاصمة الدولة الفلسطينية العضو في الأمم المتحدة.
منذ أن احتلت جنازير الدبابات والقوات العسكرية الإسرائيلية مدينة القدس، يوم الثامن من حزيران عام 1967، وحكومات إسرائيل لا تكف عن الاعتداء على المدينة بشكل عام وعلى الحرم بشكل خاص، بدافع من ادعاءات لاهوتية مريضة، وتركز إسرائيل على المسجد الجنوبي من الحرم، والذي كانت قد أحرقته عام 69، وهي إذ تواصل تشجيع عمليات الحرق للعائلات والبيوت الفلسطينية المحتلة، على طول الضفة الغربية وعرضها، فان ما يلفت الانتباه هذه المرة، أن إسرائيل وبشكل رسمي هي من يقوم بالاعتداء على الحرم، ذلك أن وزير الزراعة الإسرائيلي قام بنفسه بالمشاركة في اقتحام الحرم، على عكس ما قام به ارئيل شارون عام 2000 حين كان معارضا وكان من خلال مثل هذه الأعمال يسعى لبث الدعاية الانتخابية، هذه المرة، تشكل الاقتحامات سياسة رسمية لحكومة إسرائيل!
أكثر من ذلك فإن رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو شخصيا وحسب مصادر صحفية إسرائيلية يقود عملية عسكرية من مرحلتين الهدف منها تقسيم الأقصى زمانياً، هذا في الوقت الذي اصدر فيه مكتبه بياناً رسمياً أعلن فيه عن حق "اليهود" بالصلاة في المسجد الأقصى.
وتتحدد المرحلة الأولى بملاحقة المرابطين في الحرم، وهذا واضح من خلال اقتحام القوات العسكرية للمسجد، لطرد واعتقال المتواجدين العرب / الفلسطينيين / المسلمين منه، والمرحلة الثانية تتمثل بتحديد مواعيد يومية إلزامية تسمح لليهود بدخول المسجد الأقصى ومنع الفلسطينيين من دخول الحرم في تلك الساعات تماما كما حدث مع المسجد الإبراهيمي في الخليل.
لا شك بأن سعي حكومة اليمين الإسرائيلي المتطرفة الحالية لفرض خطة التقسيم المكاني والزماني للمسجد الأقصى، إنما هو سعي حقيقي وأكيد ومنسجم مع سياساتها وقناعاتها، وهي لن تتردد عن المخاطرة بكل شيء في سبيل تحقيق ذلك، وهي تظن بأنها تعوض عن إخفاقها المتمثل بهزيمتها في معركة خاضتها ضد البيت الأبيض الأميركي ضد الاتفاقية مع إيران، كما أنها تعتقد بأن الفلسطينيين المنقسمين على ذاتهم كذلك العرب المنشغلين باقتتالهم الداخلي، هم في اضعف أحوالهم.
كذلك ربما تظن الحكومة الإسرائيلية بأنها بحاجة لامتلاك زمام المبادرة دائما، وأنها في مواجهة "هجوم" محتمل ومتوقع أن يشنه الرئيس الفلسطيني عليها بعد أسابيع قليلة في الأمم المتحدة، لابد لها أن تستبق هجومه بهجوم خاص من قبلها، يمكنه أن يردعه عما ينوي القيام به، أو أن يحرق الأرض تحت أقدامه، فيدفع الفلسطينيين في القدس والضفة، غزة وحتى مناطق الـ 48 إلى اللجوء للعنف، بما يعيد لها زمام المبادرة وحتى التعاطف الدولي، أو على الأقل يمكنها من خلال جر الفلسطينيين إلى سلسلة لا تنتهي من "المشاكل" أن ينسوا، جريمة حرق آل دوابشة، بالانشغال الآن بحرب تطلقها إسرائيل على المسجد الأقصى.
يمكن لإسرائيل إذن أن تظن كل الظن كما تشاء، لكن عليها أن تتذكر بان بعض الظن إثم، ويمكنها أن تتأبط كل الشر الذي في الدنيا، وهي تظن بأن لجوءها للشر يجنبها ويلاته، عملا بالقول إن لم تكن ذئبا، فقط نقول بأن اليأس يمكنه أن يدفع اليائس إلى ما لا يتوقعه الآخرون، وان الدفع المتواصل لجعل الحائط ملاصقا لظهر الفلسطينيين، ربما يدفعهم إلى اختيار خيار "شمشون"، أي خيار _ علي وعلى أعدائي، حينها لا تلوم إسرائيل إلا نفسها، وهي ما دامت ترفض أن تعيش بسلام واحترام إلى جانب الفلسطينيين.
رجب أبو سرية
15 أيلول 2015