منذ ثمانيات القرن الماضي تم اقحام الساحة الفكرية العربية بالعديد من الافكار والأيدولوجيات المتناقضة والمتنافرة ... والي حد الصراع والمواجهة الدموية ... وليس مجرد خلاف نظري وتنظير سياسي ... ومحاولة كسب قواعد جماهيرية من خلال الاقناع والايمان ... ولكن جاءت نتائج الافكار المتعددة والايمان بها نتاج تقلبات ومتغيرات واحداث متسارعة ... ربما وصلت في بعض مراحلها الى حد التخطيط والتآمر واستهداف البنية الوطنية والقومية للفكر السياسي العربي ... مما احدث حالة من الشد والجذر لا زالت تشهدها الساحة الفكرية العربية ... ولم يكن ما جرى من احداث متتالية بما سمي بالربيع العربي ... الا تعبيرعن حالة من الفراغ الفكري واستغلالا مخططا لأوضاع اقتصادية اجتماعية وسياسية من قبل بعض النخب الفكرية التي تتسم بالانتهازية والمصالح الشخصية والى درجة الارتباط والانصهار بمشاريع لا علاقة لها بمصالح الوطن والامة .
ما بعد نكسة حزيران 67 وما اصاب الفكر القومي الناصري من تراجع بحكم عوامل الصدمة وافرازات المرحلة ونتائجها العسكرية ... وما تعانيه المجتمعات من معضلات ومشاكل اقتصادية ... برغم قسوة الظروف ... الا ان نتائج النكسة لم تستطع ان تهدم جذور ومداميك وثوابت الفكر القومي الوطني ... ولا حتى ما تحقق من انجازات اقتصادية اجتماعية انسانية حققت الكثير من العدالة الاجتماعية .
كانت العاصفة عاتية ... وشديدة التقلب ... بإفرازاتها الفكرية الاصولية التي خلقت الكثير من الافكار ذات المنطلقات الدينية التي قد يتوافق البعض معها ... وقد يرفض البعض الاخر معظمها ... اجتهادات ومنطلقات وثقافات ... لكنها بالمحصلة النهائية ... متابعة للنتائج والمحصلات النهائية والتي وجدنا من خلالها ان معظم تلك الافكار والمعتقدات قد تصارعت وتضاربت والى حد المواجهة الدموية ... والرغبة الحقيقية في نفي الاخر ... مع ان المنطلقات الفكرية في اساسها واحد ... وهذا ما يغلب الفكر الشخصي والجمعي على الثوابت والمبادئ الدينية .
كانت العاصفة اكبر من امكانيات مواجهتها لأسباب ذاتية وموضوعية ... اكبر من ان تواجه بجملة من الشعارات والافكار... بقدر حاجتها الى حلول عملية وعاجلة لا تحتمل تبعات الزمن وسوء تقدير نتائجه .
في واقع الاشتداد والتراجع القومي ... وما انعكس على ضعف الانتماء الوطني
... توغلت بعض الافكار الاصولية ذات الابعاد السياسية والتي توفر لها المزيد من الفرص والقواعد والدعم اللوجستي في ظل غياب الانظمة والاحزاب الوطنية والقومية وانشغالاتها في الحكم وتبعاته ومشاكله المستمرة ... مما وفر ارضية التوغل والانتشار ... ودغدغة العواطف والتلاعب بأحاسيس واماني الامة وشعوبها ومصالحها الوطنية .
وهنا لا بد من الاشارة الي بعض النقاط :
اولا: حالة الفراغ الفكري القومي الوطني لم يستبدل بشكل كامل بالأفكار الاصولية .
ثانيا: حالة الاصولية الدينية التي انتشرت بالسنوات الماضية اختلفت فيما بينها والى حد الصراع مما اصابها بالضعف والتصدع وعدم المقدرة على امتلاك البديل والحلول الممكنة مما ابقى على الفكر القومي الوطني كخيار وحل .
ثالثا: محاولة البعض لفرض عقيدتهم ومبادئهم بالقوة والاكراه والعنف والى حد الارهاب ... افسح المجال لصحوة فكرية قومية وطنية مؤمنة بإرادة الشعوب وقدرتها على تصليب مواقفها والدفاع عن وجودها والمحافظة على مكتسباتها ... وعدم السماح بالتلاعب بمقدراتها وامنها واستقرارها .
رابعا: التجربة وما افرزته من نتائج وعدم تحسن الاوضاع وغياب الحلول للقضايا والمعضلات الاجتماعية والاقتصادية حتى السياسية يفرض حالة الخروج من عباءة الاصولية وما اثبتته من عجز على ايجاد الحلول الممكنة .
خامسا: التطرف الفكري والتعصب الاعمى والتذمت ونشر مشاعر الخوف والكراهية واستخدام وسائل القتل والاجرام والارهاب ... وفر الكثير من عوامل التراجع والتخوف من هذه الاصولية ونتائجها المدمرة على وحدة الامة ونسيجها الاجتماعي ومصالحها العليا وحتى امنها القومي ... مما فرض حالة وجوب استنهاض الفكر القومي الوطني كخيار استيراتيجي وملاذ اخير للخروج من هذه العباءة السوداء القاتلة للتطور والانفتاح ورقي الشعوب وتقدمها .
سادسا: ما جرى من مخططات ومؤامرات لم يكن للعقل والفكر العربي من تقدير للموقف بالصورة المطلوبة ... لان المؤكد بحكم الوقائع والنتائج انه لم يكن بالإمكان التقدير ان الموقف الامريكي من العراق سيؤدي الى الهلاك والتقسيم وزرع بذور الفتنة الطائفية ونهب خيرات هذا البلد العربي الشقيق وتشريد شعبه وافقاره وسلب حريته وامنه واستقراراه ... وما جرى للعراق يجري على الارض السورية والليبية واليمنية وغيرها من الساحات العربية التي تحتاج الى صحوة فكرية قومية وطنية .
سابعا: فشل الافكار الاصولية وما تولد من قناعات لدى المواطن العربي ان الاصولية تدمير للواقع وافاق المستقبل ... مما يدفع الى استنهاض الحالة القومية والوطنية باعتبارها المنقذ الممكن والواقعي للحالة التي ألمت بالمنطقة .
ان الافكار والأيدولوجيات المتعددة متاح لها ان تساهم في تطور الامة ... وتعزيز مكانتها ... وتصليب مواقفها ... والمحافظة على مكتسباتها الاقتصادية والاجتماعية والسياسية ... بما يحفظ امنها واستقرارها ويعيد للامة امجادها وتاريخها ... الا اننا يجب ان نحذر من مغبت الخلط ما بين الدين الاسلامي الحنيف ... والفكر الاصولي المتشدد والتكفيري .
الكاتب : وفيق زنداح