بالرغم من أنّ استطلاعات الرأي وفق المثل الفرنسي مثل "البرفان تشم ولا تذاق"، إلا أنها مؤشر على اتجاهات الرأي العام في اللحظة التي تُجرى فيها. وتكتسب استطلاعات الرأي حاليًا في فلسطين أهمية خاصة لأنها إحدى المؤشرات القليلة المتوفرة في ظل غياب الانتخابات التي لم تُجر منذ عشر سنوات للانتخابات الرئاسية، ومنذ تسع سنوات للانتخابات التشريعية.
مناسبة هذه المقدمة نتائج الاستطلاع الأخير الذي أصدره المركز الفلسطيني للبحوث السياسية والمسحية بتاريخ 21/9/2015، حيث جاءت نتائجه مثيرة وتستحق التوقف عندها.
لعل أهم ما جاء في الاستطلاع تراجع شعبية الرئيس و"فتح"، وهذا ليس مفاجئًا، وتقدم شعبية "حماس" وإسماعيل هنية، وهذا هو الأمر المفاجئ. فقد تراجعت شعبية الرئيس من 47% في الاستطلاع السابق إلى 44% في الاستطلاع الحالي، بينما تقدمت شعبية إسماعيل هنية من 46% إلى 49%. أما حركة فتح فقد تراجعت شعبيتها من 39% في الاستطلاع الأخير إلى 35%، بينما تقدمت "حماس" بعد الحرب من 32% إلى 35% وحافظت على هذه النسبة في آخر استطلاعين. ومثل هذه النتيجة ملفتة للنظر، فقد كانت شعبية "فتح" تتقدم وتتراجع ولكنها ظلت متقدمة في الغالب على "حماس"، حتى عندما تقدم هنية على عباس.
نتائج لافتة أخرى جاء بها الاستطلاع مثل أن 65% من المستطلعين تطالب الرئيس بالاستقالة، بينما طالبت نسبة 31% الرئيس بالبقاء. ويعتقد ثلثا الجمهور أن استقالة الرئيس من رئاسة اللجنة التنفيذية للمنظمة غير حقيقية ونسبة من 23% فقط تعتقد أنها حقيقية.
وجاء في الاستطلاع أنه لو جرت انتخابات رئاسية وكانت المنافسة بين مروان البرغوثي وإسماعيل هنية، يحصل البرغوثي على 55% وهنية على 39%. قبل ثلاثة أشهر حصل البرغوثي على 58% وهنية على 36%. أما لو كانت المنافسة بين الرئيس عباس ومروان البرغوثي وإسماعيل هنية، فإن عباس يحصل على 24% والبرغوثي على 34% وهنية على 36%.
وجاء أيضًا في الاستطلاع أنه في حال استمرار الانقسام هذا العام، فإن 56% يعارضون إجراء انتخابات رئاسية وتشريعية في الضفة، ويؤيد ذلك 41% فقط، بينما تعارض نسبة من 62% إجراء انتخابات رئاسية وتشريعية في قطاع غزة ويؤيد ذلك 36%.
وعند الحديث عن العمل المسلح، قالت نسبة من 42% إنه هو الطريق الأكثر نجاعة لقيام دولة فلسطينية إلى جانب دولة إسرائيل، فيما تقول نسبة من 29% أن المفاوضات هي الطريق الأنجع، وتقول نسبة من 24% أن المقاومة الشعبية السلمية هي الأنجع. قبل ثلاثة أشهر قالت نسبة من 36% فقط أن العمل المسلح هو الطريق الأنجع وقالت نسبة من 32% أن المفاوضات هي الأنجع.
وبخصوص مفاوضات التهدئة فإن نسبة من 65% تؤيد قيام "حماس" بإجراء مفاوضات غير مباشرة مع إسرائيل بخصوص هدنة طويلة الأمد في قطاع غزة مقابل إزالة الحصار ونسبة من 32% تعارض ذلك. وتؤيد نسبة 48% فقط حل الدولتين ونسبة من 51% تعارضه. قبل ثلاثة أشهر بلغت نسبة التأييد 51% والمعارضة 48%.
ونتيجة لافتة كذلك، قول نسبة من 50% أن السلطة هي صاحبة الحق في وقف التنسيق الأمني أو المدني مع إسرائيل، فيما قالت نسبة من 19% أن المنظمة واللجنة التنفيذية هي صاحبة الحق. وهذا تحصيل حاصل لأن السلطة تضخمت والمنظمة تقزّمت.
في بعض الاستطلاعات السابقة كانت شعبية الرئيس و"فتح" تتراجع وتتقدم شعبية "حماس" وإسماعيل هنية، ولكن كان هناك حدث يفسر ذلك. مثلًا بعد العدوان الإسرائيلي الأخير على قطاع غزة وفي ظل الصمود الأسطوري لشعبنا تحت قيادة حركة حماس حصل هنية على 11 نقطة زيادة عن التي حصل عليها عباس، وهذا أمر مفهوم، وبعد ذلك تراجع الفارق ليصبح في الاستطلاع الذي يليه إلى نقطة واحدة، ثم عاد الفارق لصالح عباس.
في العادة ترتفع شعبية "حماس" أثناء وبُعيد العدوانات الإسرائيلية على قطاع غزة، وأثناء فترة صعود جماعة الإخوان المسلمين في المنطقة التي تعتبر "حماس" امتدادًا فلسطينيًا لها. أما في هذا الاستطلاع فلا يوجد ما يبرر هذا الارتفاع في شعبية "حماس" وهنية، لأن قطاع غزة تحت سيطرة "حماس" يمر في أزمات شديدة. وظهر ذلك في الاستطلاع من خلال أن نسبة الرغبة في الهجرة لدى قطاع غزة تبلغ 52% بينما في الضفة 24%، وتبلغ نسبة الإحساس بالأمن والسلامة الشخصية في غزة 40% بينما في الضفة 49%. وأخيرًا نسبة التقييم الإيجابي للأوضاع في قطاع غزة تبلغ 12 % بينما تبلغ في الضفة 31%. يضاف إلى كل ما سبق تدهور علاقة "حماس" مع مصر، لدرجة أن معبر رفح لا يُفتح إلا نادرًا.
ويمكن عزو هذا التضارب في النتائج إلى أن هناك تخبطًا وارتباكًا في أداء السلطة في الضفة، وأنّ نسبة كبيرة من الجمهور تحمّل حكومة الوفاق والأطراف الخارجية المسؤولية عن الأوضاع التي يمر بها القطاع أكثر مما تحمل حركة حماس.
لا شك أن أخبار الزيارات من الوفود الأجنبية، واللقاءات التي أجراها ممثلو الأمين العام والأمم المتحدة وغيرهم من المسؤولين الغربيين، ومفاوضات التهدئة والتقديرات المبالغ بها كثيرًا بإمكانية نجاحها، قبل أن يتضح أنها وهم كبير ضخّمه وسوّقه عباس و"حماس" كل لأسبابه؛ ساهمت في ارتفاع شعبية "حماس"، لأنها ظهرت أنها قادرة على انتزاع رفع الحصار، والشروع في إعادة الإعمار، وتقترب من فتح ميناء عائم دون أن تتخلى عن المقاومة ولا أن تعترف بإسرائيل، بينما في المقابل "فتح" والرئيس اعترفوا بإسرائيل وتخلّوا عن المقاومة ولا يجدون ما يسعفهم على طاولة المفاوضات.
توضح نتيجة المفاوضات غير المباشرة أن إسرائيل توافق على استمرار ما هو قائم، أي تهدئة مقابل تسهيلات وتخفيف للحصار، ويمكن زيادة ذلك قليلًا، وأن "حماس" إذا أرادت أكثر من ذلك فعليها أن تدفع مقابله بوقف تطوير سلاح المقاومة ووقف بناء الأنفاق، وصولًا إلى الاعتراف بإسرائيل.
ما يمكن أن يفسر نتائج هذا الاستطلاع أكثر من أي شيء آخر ازدياد الهوة بين الشعب وبين القيادة والرئيس وحركة فتح في ضوء تردي الأحوال تقريبًا على مختلف المستويات والأصعدة، السياسية والاقتصادية والاجتماعية، خصوصًا في ظل تصاعد الاعتداءات على الأقصى، وتكثيف الاستيطان.
كما ساهم في هذه النتائج فضائح الفساد التي انتشرت مؤخرًا، وفشل الدعوة لعقد مجلس وطني بمن حضر، والتراجع عن عقد دورة عادية لعدة أسباب أهمها تصاعد الصراع بين الأجنحة المختلفة في حركة فتح وبينها وبين الرئيس، لدرجة العجز عن الاتفاق على لائحة "فتح" في اللجنة التنفيذية، ما يعني أن هناك مذبحة سياسية كان سيشهدها المجلس الوطني إذا عقد، لأن معركة الخلافة قد ابتدأت واحتدمت في ظل إعلان الرئيس عزمه على الاستقالة، وعدم الاتفاق على خليفة أو خلفاء في ظل عدم تعيين نائب للرئيس (الرجل الثاني)، وعدم اتضاح آلية نقل رئاسة السلطة في ظل الانقسام وعدم سهولة إجراء انتخابات رئاسية خلال ستين يوما كما حدث بعد اغتيال الرئيس الراحل ياسر عرفات فقد ترأس السلطة رئيس المجلس التشريعي، أما اليوم إذا توفي الرئيس أو استقال أو مرض مرضًا يحول دون أداء عمله، فلا يوجد اتفاق على تولي رئيس المجلس التشريعي لرئاسة السلطة لأن المجلس معطل منذ فترة طويلة.
هناك من يبسط الأمر ويقول إن المنظمة هي التي أنشأت السلطة وبمقدورها ملء الفراغ في الرئاسة إن حدث، من خلال اعتبار اللجنة التنفيذية هي حكومة الدولة الفلسطينية بعد الاعتراف الأممي بها، أو بأن تعين رئيسا أو هيئة رئاسية لمدة مؤقتة، ولكن هذه الحلول ستجعل أي رئيس غير منتخب فاقدًا للشرعية السياسية والوطنية في ظل انهيار ما سمي "عملية السلام" والشرعية الانتخابية، التي حصل عليهما الرئيس محمود عباس ومن قبله ياسر عرفات.
هاني المصري
29 أيلول 2015