حانت ساعة العمل!!!

بقلم: رامي الغف

منذ انعقاد مؤتمر السلام في مدريد، والإسرائيليين والولايات المتحدة والعالم أجمع يعرفون أن القدس خط أحمر فلسطينيا وعربيا وإسلاميا ومسيحيا، لذلك فقد تعرضت القدس وضواحيها ومنذ احتلالها إلي أبشع أنواع مصادرة الأراضي والتهويد والتغير الديمغرافي، واستهدفت العديد من منازلها ومؤسساتها إلى الهدم بحجة عدم الترخيص أو المصادرة لإدعاء الملكية أو إنها أملاك غائبين، وفي كلتا الحالتين يتم إسكان مستوطنين في تلك البيوت ورفع علم إسرائيل فوق سطوحها، وتعيين أطقم حراسة من حرس الحدود وبذلك يجعلون المنطقة بكاملها تعيش تحت الإرهاب الصهيوني.

إسرائيل عمدت كذلك على إحاطة القدس بمجموعة هائلة من أحزمة المستوطنات وركزت على اغتصاب الأرض وطرد السكان عبر أساليب استيطانية خبيثة أبرزها النوايا، والدعاية، وقوانين الضم بهدف تصفية حقوق السكان في أملاكهم باعتبارها أملاكا تم الاستيلاء عليها بحكم الاحتلال والقوانين الصادرة عنه وتصفية المؤسسات الوطنية الإسلامية والمسيحية، وهدم جميع الأبنية الأثرية الملاصقة للمسجد الأقصى والكائنة حوله، وباشروا في إجراء حفريات في ارجاءة بحثا عن آثار يدعونها.

حكومة الاحتلال تستهدف أبناء القدس عبر ترحيلهم وترهيبهم وقمعهم، والتخلص منهم عبر تكثيف الوجود اليهودي من خلال النزوح اليهودي إلى القدس وتصعيد حركة الاستيطان وإضفاء الطابع اليهودي على المدينة لخلق أمر واقع يساند ويعاضد الإدعاء الإسرائيلي باعتبار القدس عاصمة أبدية لدولة إسرائيل. وهذا ما عبر عنه " الصهيوني المتشدد هرتزل" عندما قال "إذا حصلنا يوما على القدس وكنت لا أزال حيا وقادرا على القيام بأي شيء فسوف أزيل كل شيء ليس مقدسا لدى اليهود فيها. وسوف أحرق الآثار التي مرت عيها قرون، وهو هنا يعارض الأنثرولوجيا والتاريخ، فاليهود لم يملكون يوما بمعنى الامتلاك شيئا في القدس، بل أن وجودهم كان عابرا على المنطقة والمدينة. وكان "بنغوريون"يردد دائما لا معنى لإسرائيل بدون القدس ولا معنى للقدس بدون الهيكل.

إذا إن المرحلة التي يمر بها الشعب الفلسطيني وقضيته الوطنية ومقدساته الإسلامية والمسيحية تعتبر من أدق وأخطر المراحل التي مر بها حتى الآن، "فالقدس" وهي أبرز الثوابت المعاصرة التي لا جدل حولها، ففوق جبالها تتبلور حالات الحضور لتعد النوارس بالقيامة، والقدس الوطن الأشم والذاكرة الخالدة المزدوجة بجملة الحقائق والأشياء، يمشط شعرها تاريخ الأجداد والآباء والشموخ الجبلي الداخل في الطقوس اللاهبة، إنها امتزاج الحلم بالتراجيديا، أولادها وبناتها يغزلون مستقبل الحب والسلام وينشدونه ويرتلونه. فإن إرادة السماء منذ ان وطأت أقدام المسيح للوطن المقدس، شاءت أن تكون القدس فاتحة التكوين وعاصمة فلسطين وفلسطين بإذن الله ستنتصر.

فإذا كانت حكومة الاحتلال ومستوطنيهم في ظل زوبعة الأحداث الجارية في الوطن العربي قد اتخذوا خطوات جديدة إستباقيه فيما يخص معركة القدس، فان الشعب الفلسطيني بكافة أطيافه وألوانه السياسية ومعه الشعب العربي يدركون جيدا أن القدس هي النقطة التي لا تهاون ولا تردد فيها، ويدركون كذلك أن القدس هي مشكلة المشاكل وأن حقهم فيها لا يمكن أن يقتصر على قدر متواضع كرفع العلم أو الاكتفاء بجزء من الأماكن المقدسة، فمقدساتهم هي إسلامية مسيحية وهي مقدسات في إطار حقوقهم الكبيرة في عاصمتهم الخالدة القدس. وهم يعلنون دعمهم ووقوفهم بجانب القيادة الفلسطينية ورئيسها "محمود عباس" الذي أبدى صمودا وثباتا حديديا على الموقف الفلسطيني الثابت حيال القضايا المصيرية للشعب الفلسطيني وعلى رأسها القضية المركزية"القدس"، وقالها مدوية لا لتقسيم القدس ولا للمخططات الأمريكية الإسرائيلية التي تريد انتقاص حقوقنا.

لقد أصبح العنوان الرئيسي لحكومة نتنياهو خلال عمر ولايته الحالية أكثر وضوحا وهو "دعوة الفلسطينيين للاستسلام" والتخلي عن أهدافهم الوطنية العليا مقابل تسوية مرحلية طويلة الأمد تبقي "القدس" طابو مسجلة باسم الكيان الإسرائيلي ويتم في إطارها منح المستوطنات شرعية التمدد حسب الرغبة الإسرائيلية.

إذا فالظروف والمتغيرات الدولية والتعنت الإسرائيلي قد تطور تجاه فلسطين وقضاياها الوطنية وعلى رأسها قضية القدس ليتأكد أن قوى الظلام في إسرائيل يرفضون هذه الخيارات، خاصة وهي تحاول دق الأسافين في عنق المسيرة السلمية وتقدم قوى التطرف في إسرائيل بأشرس هجمة استيطانية على القدس الشريف وتحاول من خلال ذلك تزوير الجغرافيا والتاريخ، ولكن القدس التي تتمركز في وجدان كل فلسطيني وعربي هي القاعدة الأولى والأخيرة التي لا جدل حولها أبدا، فالقدس عاصمة الدولة الفلسطينية، فالمفاوضات بين الجانبين الفلسطيني والإسرائيلي والتي تتكلل دائما بالفشل بسبب المواقف الإسرائيلية المتصلبة والمتعنتة في أكبر القضايا حساسية "كمسيرة سلمية" يستطيع رئيس الوزراء "نتنياهو" أن يقدمها في كل لحظة على الطاولة لتضليل الرأي العام المحلى والإقليمي والدولي والتمسك بمقاليد الحكم والسلطة في هذا الكيان المأزوم بتناقضاته الحزبية الضيقة والاجتماعية والسياسية، فلقد أوصلت مناوراته البهلوانية مسيرة السلام في الشرق الأوسط إلى عنق الزجاجة وبدت ملامح المواجهة الساخنة بين الطرفين الفلسطيني والإسرائيلي تلوح في الأفق يعززها واقع التوتر والقلق المشحون بالحشود العسكرية الإسرائيلية، وهذا الواقع المرير يعتبر امتدادا طبيعيا لسياسة نتنياهو المتمثلة في حسم الأمور بضربة واحدة على طريقة العسكر.

حيال هذا التعنت بالقدس لدى كيان الاحتلال ومستوطنيه يجب أن نؤكد أن الاستخلاص الأساسي وهو أن كيان الاحتلال وأطراف الاحتلال غير معنية أو ناضجة لاستحقاقات السلام، وغير ناضجة للاستحقاقات الوطنية الفلسطينية في حده الأدنى وهو ما يعني بأنه ما زال أمام الشعب الفلسطيني وقيادته السياسية مهمة إيجاد الكيفيات والآليات لإنضاج الرؤوس الحامية وهي كيفيات وآليات تسير على عدة محاور أساسية أهمها.

أولا: الإدارة السياسية الصحيحة للمرحلة القادمة وهي في حقيقتها قد تكون مرحلة فراغ، ومرحلة لا مفاوضات من حيث الجوهر وبغض النظر عن الأشكال أو التكتيكات، وهذه الإدارة السياسية يجب أن يكون هدفها تفكيك جبهة الخصوم وتقوية جبهة التحالفات، وإعطاء مناخات مناسبة لاستمرار المقاومة والانتفاضة، وعدم عزلهما، وحشد المساندة الدولية، والعمل بكل المجهودات في الساحة الدولية الأمريكية والأوروبية وكذلك الساحة العربية والإسلامية وساحات الأشقاء والأصدقاء وأن تستخدم المنطلقات الإيجابية بصورة سلمية بارعة.

ثانيا: استمرار التمسك بالثوابت وبلا تردد، فهناك اتفاقيات انتقالية لم تنفذ بعد، فيجب على الإسرائيليين تنفيذها فورا، وهناك قضايا الوضع النهائي التي قطعت أشواط والتي استشهد من أجلها القائد الرمز أبو عمار، فلا يمكن الرجوع فيها إلى الوراء والتي تحتاج من الفلسطينيين المزيد من الخطوات إلى الأمام بحيث لا حل ولا أمن ولا استقرار نهائي بدون القدس والأماكن المقدسة وحق العودة والأرض كاملة والاستقلال كاملا.

ثالثا: التأكيد على استمرار مقاومة الاحتلال المشروعة، فالمقاومة حق مشروع والاتفاقيات تجاوزت وقتها والشعب الفلسطيني لن ينتظر.

رابعا: استمرار الانتفاضة وفعالياتها المدنية وتوسيع نطاقها وقاعدتها والمشاركة فيها واستكشاف القوانين المناسبة لظروفها الموضوعية وخصائصها في هذه المرحلة من أجل تعزيزها والاستمرار بنقاط قوتها وإيجابياتها.

خامسا: تحقيق الجاهزية وترتيب الوضع الذاتي والداخلي وإنهاء الانقسام الحاصل بين شقي الوطن فورا من أجل الجاهزية لمعركة القدس الكبرى، فترتيب الوضع الداخلي لابد أن يعي الجميع أن علاج الوضع الذاتي يجب أن يبرمج بالجرعات العلاجية المناسبة، لأن الجرعات العلاجية الزائدة عن قدرة الاحتمال قاتلة، والجرعة العلاجية الناقصة من الاحتياجات غير مجدية.

سادسا: تمتين كل صيغ الوحدة الوطنية وتمتين ودعم صنع لقاء ووحدة القوى الوطنية والإسلامية وعلى رأسهما حركتي فتح وحماس وتكامل المواقف في اتجاه الهدف الوطني لهذه المرحلة التاريخية، وهو هدف على طريق أحلام وتطلعات الشعب الفلسطيني ببعدها العربي وخيارها الحضاري والتاريخي العربي الإسلامي والمسيحي العربي.

وبناء على ما تقدم يمكننا القول أن استهداف عملية السلام ومن ضمنها استحقاقات القدس من قبل قوى اليمين المتطرف والمستوطنين الحاقدون على العرب والفلسطينيون يشكلون تهديدا خطيرا لمستقبل المنطقة، وهذا التقدير يبقى واردا في ظل تواطؤ رموز الحكومة الإسرائيلية بالشراكة مع المستوطنون العابرون والقادمون من "أوكرانيا وأثيوبيا وبلغاريا وروسيا" وعجزهما عن اختراق الخط الفاصل بين الأيدلوجية التوراتية والمتطرفة والسلام العادل وستكشف الأشهر القادمة ان "نتنياهو وزبانيته" ليس إلا أرقام جاريا من سلسله الأرقام التي جلسوا خلف مكتب رئيس الوزراء كشاهدين زور على عبث المستوطنين وأتباعهم بمستقبل عملية السلام.
بقلم/ رامي الغف*
*الإعلامي والباحث السياسي