غزة إحدى عرائس البحر الأبيض ، تتيه دلالا وجمالا على عكا ويافا والاسكندرية والبندقية . فما أجملها وهي عارية على الشاطئ تغتسل بأشعة الشمس في الصباح ، وما أجملها وهي تلهو في المساء تحت ضوء القمر؛ تتضاحك من حولها النجوم وتحرسها الكواكب. وما أحرى بها تُمَتِّع ساكنيها وزائريها بدفء بسماتها ، تمد لهم أكفَّها تُهدهدهم ما استطاعت إلى ذلك سبيلا . فينكشف عنها الغطاء وهي تتمايس وتتثنَّى بين صويحباتها ، تتغنى بالحب الإلهي ، تزفها الملائكة بعد أن تُتمَّ زينتها في طُهر وعفاف . كانت باسمة الثغر ، مُقبلة على الحياة ؛ تتهيأ للانتقال من حالة البؤس والشقاء إلى عالم الثراء ، فقد وعدوها أن تكون حسناء المنطقة " سنغافورة " ثانية ، لا نجوع فيها ولا نعرى ، ولا نظمأ ولا نضحى . فإذا بهم يكذبون ، وإذا بها قد تحوَّلت إلى " تورا بورا " ، فأُصيبت بشيء من الخوف والجوع ونقص من الأموال والأنفس والثمرات ، وكانت وعودهم الخادعة تتراءى لها كسراب يحسبه الظمآن ماء .
ذهبت تلك الأيام الخوالي ، واستَبدلت بها الأقدار أياما تبدو فيها غزة للناظرين مدينة كالحة الوجه دامعة العينين ، ترسف في أغلال الذل والقهر . فكل شيء فيها ينتظر الموت خلاصا من حياة مُضنية كاذبة ، فما أصعب على الإنسا ن أن يتمنى الموت دواءً يلتمس منه الشفاء من حياة ليس فيها أدنى قوامات الحياة . ولقد سبقنا المتنبي منذ أكثر من ألف عام قائلا :
( كَفَى بكَ داءً أنْ تَرَى الموتَ شافيا وَحَسْبُ المنايا أنْ يَكُنَّ أَمانِيا . )
فمَن يَزُرْ غزة يرَ كل شيء فيها ميت ، فعمائرها ودورها قبور ، يلفها الظلام بوشاح معتم ، والناس فيها يعبسون ، وجوههم مُغَبَّرَة ترهقهم قَتَرة ، يتحركون بأثقال الهموم بقدر ما يسمح لهم القيد بالتنقل ، تحركاتهم لا إرادية ، وأحيانا اضطرارية لا تفسير لها في مساحة ضيقة تتحكم فيها مسافة الحبل المشدود في وتد المنتصف بعد أن طوقها الحصار، وضربها أعداؤها وشانئوها بالمجانيق ، وأدار لها حماة الديار ظهر المِجَن ، وتركوها نهبا للمخاطر وسود الخواطر ، فاشتعلت في خاصرتها النار ، تمتد كفَّاها تتحسس مواقع الطعنات التي خلَّفتها في جسدها خناجر فلسطينية الصنع . وإنها لتنتظر البشرى لعلها تسمع المزيد عن سقوط أوراق الخريف في موسم سقوط الأئمة ، تتفقد أبناءها فإذا ببعضهم قد هاجر إلى بلاد غريبة تحتضنه بالأمن والأمان ، وبعضهم الآخر حزم أمتعته وعزم على الرحيل مفارقين وطنا عزيزا لم يستطع أن يوفر لهم رغيف الخبز والعيش الكريم . فسقى الله أياما كانت فيها غزة ضاحكة مستبشرة ، عمالها يعملون وصناعها يصنعون وتجارها يبيعون ويشترون وطلابها يدرسون ، ومعابر القطاع مفتحة الأبواب والمنافذ ، لو أن الشعب كله أراد السفر فإنهم يسافرون ، فلا حاجة لهم وقتئذ إلى اجتماع سكان القطاع يتزاحمون على الشباك الوحيد في " أبو خضرة " لتسجيل ذوي الحاجة للسفر. هذا الشباك الملعون ذو القسمات الهمجية دليل على تخلف أصحابه الحضاري والفكري .
سقى الله أياما كانت منظمة التحرير الفلسطينية في عنفوان شبابها ، وفي قمة مجدها وعطائها وتضحيات أعضائها ، فاستحقت أن تكون له الممثل الشرعي والوحيد عن حب وجدارة ، أما اليوم فهي ( كب للبحر ) غير مأسوف عليها وعلى الكهنة أعضاء لجنتها التنفيذية الذين انمحت ملامح وجوههم بفعل شيخوختهم المتأخرة .
سقى الله أياما كان فيها للشعب الفلسطيني قائد واحد هو الزعيم الشهيد ياسر عرفات ، الذي أحب شعبه وأخلص لقضيته ، فبادله شعبه بالوفاء والتقدير والسمع والطاعة عن قناعة ، فقاد حركة التحرر الفلسطيني بلا مصالح ذاتية وبلا مطامح مادية ، فلم يكن هدفه الثروة وجمع المال ، بل كان هدفه الثورة وتحرير البلاد من الاحتلال . فمن أين لنا برجل يحمل رايته ولو بنصف مواصفات ومؤهلات الزعامة والقيادة الوطنية العرفاتية ؟ .
على الله تعود تلك الأيام فتنفرج الأحوال حتى وإن عاد فيها الاحتلال ، فَـرُبَّ ضارةٍ نافعةٌ . أَوَ ليس قطاع غزة مازال محتلا عن بُعد ، كما الضفة الغربية عن قُرب ؟. اسألوا أنفسكم أيها الفلسطينيون وكونوا صادقين . *
بقلم/ عبدالحليم أبوحجاج