شكلت الهبة الشعبية على امتداد فلسطين نقطة تحول مهمة على الصعيد الفلسطيني ، رغم شلال الدم ، فشباب وشابات فلسطين يرسمون بمواجهاتهم مستقبل الشعب الفلسطيني ، وما عمليات الطعن والحجر والمقلاع التي ينفذها شبان وشابات فلسطين ضد قوات الاحتلال وقطعان مستوطنيه سوى حدثا كبيرا في سياق التمهيد للانتفاضة الثالثة في وجه هذا الاحتلال الذي يمارس ارهاب الدولة المنظم .
نعم استطاع الشعب الفلسطيني أن يبتكر الوسائل النضالية المناسبة لمواجهة جيش الاحتلال وقطعان مستوطنيه ، ولقد تجلت حنكة كافة الفصائل والقوى والهيئات والكتل الطلابية والشبيبية منذ اليوم الأولى من الهبة الشعبية العارمة بإعطاء تعليمات صارمة بعدم استخدام الأسلحة النارية في هذه المرحلة ، وذلك بهدف تفويت الفرصة على العدو من اعتبار ذلك مبرراً له لاستخدام آليته العسكرية في تقتيل شعب فلسطين، وتركيز القوى والفصائل والهيئات على أهمية استعمال وسائل وأساليب وأدوات النضال، باعتبار ذلك سلاح المقاومة الشعبية وكل ما امتلكته الجماهير الفلسطينية من أدوات يمكن استخدامها في الصدام مع قوات الاحتلال الإسرائيلي وقطعان مستوطنيه .
اليوم تحتل الهبة الشعبية العارمة مكانها باسم "ثورة السكين والحجارة" باعتباره سلاحا جديدا غير مرئي يتمثل في الالتحام الشعبي اللامثيل له برفض الاحتلال، بكل الوسائل الممكنة للتعبير عن الرفض والغضب وهي الوسائل والأدوات التي يمكن وصفها باللاعنفية في معظم الحالات والعنيفة في القليل منها، و ما يهمنا هو استمرار مسيرة الهبة والتفاف الجميع حولها حتى تتمكن من تحقق خطواتها التصعيدية في المجابهة، بعد استخدام الزجاجات الفارغة وتجهيزها بمواد أولية متفجرة ومشتعلة وهي أحد التقاليد الموروثة في الحرب الشعبية .
وبالرغم من هذا كله، نهض الشعب الفلسطيني وبادر من جديد، ومن فوق تراب وطنه المحتل، بهبته الشعبية الثورية ، مستوعباً لكل دروس التجارب النضالية السابقة وغيرها، عربياً وفلسطينياً، ومدركاً لكل ما أفرزته تجارب الصراع ضد الاحتلال الصهيوني من وقائع وما كشفته من حقائق، متسلّحة بهذا الوعي، فقد تمكنت الهبة منذ بدايتها، بما حددته من أهداف واضحة وبما أبدعته من أساليب نضالية لتحقيق هذه الأهداف من تأكيد قدرتها على الاستمرار والنمو كحقيقة ثورية ميدانية، تستطيع فرض واقع جديد على مسيرة الصراع العربي الصهيوني بشكل عام، وعلى مسار م.ت.ف بشكل خاص، فلا تهويل في أهدافها ولا وعود بما لا تملك القدرة على إنجازه، حتى لو كان ذلك حقاً، فلكل حق شروطه ومتطلباته حتى يتم استيفاؤه، ولا تحريف في أهدافها حول كل ما هو أساسي وثابت ومعترف بشرعيته من حقوق، كحق تقرير المصير وحق العودة الى دياره التي هجر منها عام 1948، والعيش الحر في دولة مستقلة حرة كاملة السيادة وعاصمتها القدس .
امام كل ذلك نقول ان الهبة الشعبية العارمة او انتفاضة القدس والضفة واضحة في أساليبها النضالية، والتي استلهمتها من واقع شعبها وموقعه، ومما تسمح به إمكانيات هذا الشعب وطبيعة هذا الموقع، بعيداً عن تقليد أو محاكاة ثورات غيرها من الشعوب ومن دون مغالاة في الاعتماد على دعم خارجي يتحكم فيها، فالشعب كل الشعب هو أداة الهبة، وفصائله وقواه طلائع له، وليست بديله عنه، والسكين والحجر هو سلاحها، وأمضى ما فيه يكمن فيما يرمز إليه من إصرار لا رجعة عنه في مقاومة الاحتلال والاستيطان، وتحت كل الظروف مهما كان الفارق في موازين القوى فالتاريخ يشهد أن التفوق في الارادة كفيل في النهاية بانتزاع النصر .
لا شك أن هذا الوضوح في الأهداف والأساليب كان من أهم الأسباب التي عبأت الشعب حول الهبة الشعبية دفاع عن الارض والانسان والمقدسات الاسلامية والمسيحية وخاصة المسجد الاقصى، فدفعته ولا تزال الى تقديم أروع صور النضال، غير آبه بالتضحيات، وهي الان تعمل على تثوير العالم وأثارت تعاطفه معها، وتشد الشعوب العربية الى البوصلة الحقيقة فلسطين على طريق التضامن، وتعيد للقضية الفلسطينية مكانتها، وتؤكد ان منظمة التحرير الفلسطينية هي الممثل الشرعي والوحيد لشعب فلسطين، وتعمل على تحويل انجازاتها الى قوة دفع جديدة للنضال الفلسطيني.
لهذا نرى ان من حق الشعب الفلسطيني مواصلة هبته الشعبيه وصولا الى انتفاضة ثالثه ليست حالة ظرفية مؤقتة تدفع بها أحداث ومواقف وتزول بزوالها، وإنما هي حالة شعبية دائمة ومستمرة ما دام هناك احتلال واستيطان ، لأن ما يميز الهبة الشعبية الفلسطينية الراهنة أنها حملت معها أساليب وابداعات جديدة، وهي مرشحة لأن تحمل المزيد من هذه الإبداعات التي ستسقط كل إجراءات الاحتلال القمعية وقوانينه الإرهابية المشددة، ما دفع قادة الاحتلال الى حالة من الارتباك والتخبط ، نتيجة هذا الصمود الاسطوري للشعب الفلسطيني الصامد في القدس والضفة الفلسطينيه وغزة والأراضي المحتلة عام 1948. من هنا نقول على الجميع ان يتوحد خلف النهج الثوري حيث يسكن الوطن وتتجلى الثورة في روح شباب فلسطين الذي طالما قال العدو عنهم أنهم الصغار الذين سينسون وها قد كبر هؤلاء الصغار ،وما زالت فلسطين نبضا لا يتوقف بين ثنايا القلوب العامرة بالايمان نهو التحرير والانتصار.
لذلك بات على جميع القوى والفصائل تعزيز الوحدة الوطنية الفلسطينية ضمن اطار منظمة التحرير الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني ، وحماية المشروع الوطني الفلسطيني ، ورسم استراتيجية وطنية تستند لكافة اشكال النضال السياسي والدبلوماسي والتمسك بكافة اشكال المقاومة حتى زوال الاحتلال عن كل الأراضي الفلسطينية المحتلة. وعلى هذه الارضية يجب ان نستمد من الهبة الشعبية ومن انتفاضات شعبنا عنوان استمرار نضالنا حتى يعود ويدوي السكين والحجر والمقلاع بمواجهة الاحتلال والاستيطان على مرآى ومسمع الرأي العام العالمي الذي يتعاطف مع الفلسطينيين، وها هم ابطال فلسطين اليوم وبمقاومتهم الشعبيه يواجهون الاحتلال والمستوطنين ، حيث تعكس هذه المقاومة تلقائيا لاءات الرفض العلنية التي لا تحتاج إلى منابر لتقول أنه لا تدجين و لا مساومة و لا إستسلام ، مما يستدعي على صعيد الفلسطيني مهمة أساسية سيكون لها دور كبير في تعديل ميزان القوى المحلى الفلسطيني، وهي مهمة القيام انهاء الانقسام الكارثي وتجنيد وتعبئة الطقات على ارض فلسطين باعتبار ذلك الأداة القادرة على تعبئة طاقات كل الجماهير الفلسطينية في لبنان وفي سوريا والأردن وفي كل التجمعات الفلسطينية، ونحن نتطلع الى جميع الفصائل والقوى أن تكون بمستوى الجماهير، وحماسها، وطاقاتها، وامكانياتها، واستعداداتها العالية لتقديم كل التضحيات.
إن الشهداء الذين يسطروا ملحمة نضالية كتبوا بالدم العربي الفلسطيني ان حلقات النضال الوطني لا يمكن لأحد أن يفصل ويباعد فيما بينها وخاصة أنها تحمل في طياتها التصدي للمشاريع العدوانية والاستيطانية للاحتلال الاسرائيلي ، وأن الشعب الفلسطيني استحضر حقيقة قضيته وتأصيل مشهده الوطني ليعيد للقضية الفلسطينية حضورها على الساحتين العربية والعالمية، وان دماء الشهداء تضيئ الطريق لتؤكد للعالم بأن فلسطين لن تمحى من الذاكرة كما تخيل مؤسسو الكيان الصهيوني.
ختاما : فلنعمل جميعـا على ابقاء الحلم حيـا في عيون الأجيال القادمة ، في عيون شبابنا وشاباتنا ابطال السكين والحجر والمقلاع، باعتبار هبة شعبنا العارمة علامة فارقة في تاريخ الحركة الوطنية الفلسطينية المعاصرة ومنظمة التحرير الفلسطينية بالذات بعد مفاوضات عبثية دامت اكثر من غشرون عاما دون فائدة ، حيث نعتبر ان هذا التحول في المسيرة حركة تحرير وطني بعد رفع علم فلسطين فوق اعلى هيئة في الامم المتحدة هو في اتجاه الاستقلال الوطني، لذلك علينا ان نعتبر الهبة الشعبية خطوة مهمة على طريق تحرير الارض والانسان وإنجاز الحقوق المشروعه للشعب الفلسطيني في العودة وتقرير المصير واقامة الدولة الفلسطينية المستقلة كاملة السيادة وعاصمتها القدس.
بقلم/ عباس الجمعة