يصلح أن نطلق على هذه الهبة أنها "هبة التغيير"، فما بعدها لا يمكن أن يكون مثل قبلها، ولكن حجم ونوع هذا التغيير وهو في الأخير ما نصطلح على اعتباره الاستثمار السياسي، لا نتوقع ولا يمكن أن يكون خارج سياق المنظومة الفكرية للقيادة السياسية، التي لم تغادر بعد خيار المفاوضات، والبحث عن التسوية.
الهبة الشعبية، أضفت قدراً من الجدية على خطاب الرئيس محمود عباس أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة، ليشكل كلاهما، وهما حدث واحد، صرخة قوية، يأمل الفلسطينيون أن لا تضيع في واد سحيق، ولكن عليهم أن يعملوا حتى لا تضيع هذه الصرخة في دهاليز الوساطات، التي تعيد رسم المشهد السابق.
المشهد السابق على الهبة الشعبية مؤلم جداً، فلقد تحولت، الاهتمامات الدولية، نحو أولويات أخرى، ليس من بينها ملف الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، ويغرق العرب في بحور دمائهم وفي البحث عن حماية أنظمتهم السياسية، حتى أن الجامعة العربية فقدت الحدّ الأدنى من الحضور والفعل.
في ظل هذه الظروف ترى إسرائيل أنها أفضل حالاً من أي وقت مضى، وان بإمكانها أن تواصل مخططاتها لمصادرة كل الحقوق الفلسطينية وتحويل السلطة إلى مجرد بلدية تعتني بشؤون المواطنين وتخفف عن الاحتلال.
الخيارات التي اشتغل عليها الفلسطينيون بأطرافهم الأساسية المختلفة باءت بالفشل، فالطريق إلى السلام عبر المفاوضات، أغلقته إسرائيل بقوة، فيما لم ينجح خيار المقاومة المسلحة بما تملك من وسائل، من أن تحقق إنجازاً، واستمرت حال الانقسام التي يخدم المخططات الإسرائيلية.
والهبة الشعبية، أيضاً، تعني على نحو مباشر، فشل سياسة السلام الاقتصادي، التي ظنت إسرائيل، أنها يمكن أن تقوض ثقافة التمسك بالحقوق الوطنية من قبل الشعب وتخلق هوة كبيرة بين المجتمع وقيادته، ومؤسساته الوطنية.
كان هذا الانفجار المحدود حتمياً، حتى لو لم يكن لمناسبة خطاب الرئيس في الأمم المتحدة، ولكن إلى أين تتجه الأوضاع، بعيداً عن الشعاراتية، ودون رفع سقف التوقعات؟
الرباعية الدولية أعلنت أنها سترسل وفداً إلى الاراضي الفلسطينية المحتلة، ووزير الخارجية الأميركي بدأ بإجراء اتصالات مع الجانبين تعرض خلال اتصاله برئيس الوزراء الإسرائيلي إلى توبيخ هو استمرار لسياسة الاستهتار التي ميزت تعامل الإسرائيليين مع الإدارة الأميركية الحالية منذ بداية عهدها.
والسؤال هو ماذا لدى الأميركيين والأوروبيين، من مبادرات يمكن أن يقبلها الطرفان الإسرائيلي والفلسطيني، وتؤدي إلى تهدئة الأوضاع، التي يبدو أن القيادة الفلسطينية لم تفقد السيطرة عليها، فيما يفقد نتنياهو وحكومته السيطرة على تطرف المستوطنين؟
الحكومة الإسرائيلية لا تفكر في إبداء قدر كاف من المرونة يمكن أن يرضي القيادة الفلسطينية، فوزير الدفاع موشي يعلون، يعلن أن السلطة بقيادة عباس ليست شريكاً في عملية السلام، ونتنياهو يهدد بإعادة احتلال الضفة، فيما عدد آخر من وزرائه يطالبون بتصعيد جذري ضد السلطة من واقع انتمائهم للحركة الاستيطانية.
في الوقت ذاته تبدو الحكومة الإسرائيلية مشلولة، طالما لا تتوفر لها الذرائع والمبررات، للتصعيد الكبير سواء في الضفة أو في قطاع غزة، والأفضل أن لا يتطوع أي طرف فلسطيني لتقديم مثل هذه الذرائع. لقد لاحظنا خلال بداية هذا الأسبوع أن الإعلام تحول نسبياً للتركيز على الجاري على الحدود بين إسرائيل وقطاع غزة وأدى إلى استشهاد ثمانية مواطنين وإصابة ما يزيد على التسعين خلال يوم واحد.
وعموماً، فإن الفضائيات العربية الأساسية المحسوبة على سياسات دول، لم تغط الحدث الفلسطيني على النحو المطلوب من حيث المساحة، ومن حيث الأولوية، كما لم يبد العرب عموما، تغييراً ملحوظاً إزاء مواقفهم وتحركاتهم من المواجهات الجارية.
التقييم العام لردود الفعل العربية والدولية، حتى اللحظة على المواجهات الجارية والتي امتدت إلى أراضي 1948، لا يشير إلى أن ثمة إمكانية حقيقية لاستثمار سياسي بالمستوى الذي تتطلع إليه القيادة الفلسطينية، ما يعني أن المواجهات ستستمر أو يفترض أن تستمر وتتصاعد إذ لا يمكن العودة إلى الوراء، أو تهدئة الأوضاع دون نتائج سياسية، وإلاّ فقدت القيادة ما تبقى لها من رصيد الثقة لدى الجماهير الفلسطينية.
أما إذا استمرت هذه المواجهات لفترة أطول دون أن تحرك على نحو جدي وواضح مواقف العرب، والمجتمع الدولي، فإن الخطوة الأساسية التي ينبغي التقدم نحو اتخاذها، هي دفع المصالحة الفلسطينية بما أن مثل هذه الخطوة، تشكل تحدياً كبيراً للسياسة والمخططات الإسرائيلية، وتؤكد جدية القيادة إزاء التوجهات التي رسمها خطاب الرئيس في الأمم المتحدة. إلى ذلك الحين ينبغي من كل الأطراف أن تتوخى الحيطة والحذر من أن تخرب على بعضها البعض أو أن يؤدي الخلاف السياسي بين فتح وحماس، إلى حرف الأنظار عما يجري في الضفة، باعتبارها أرض المعركة الجوهرية، التي تقرر المسار السياسي اللاحق.