إنتبهت إسرائيل مبكراً لأهمية الإعلام بمختلف وسائطه، وقد وظفت جهداً كبيراً وأموال طائلة لتحسين صورتها في العالم، بعد مجموعة الجرائم التي نفذتها بحق الشعب الفلسطيني، وضعتها قيد الإتهام الأخلاقي كقوّة إحتلال يمارس البطش والجريمة بمختلف أنواعها، وينتهك أبسط قواعد القانون الدولي والإنساني، وقد وظفت إعلاميين ناطقين بمختلف اللغات بما فيها اللغة العربية استفادوا من بعض الفضائيات العربية والوكالات العالمية لتشويه صورة الفلسطينيين ونضالهم العادل والمشروع ضد الإحتلال وإرهاب مستوطنيه، وإستطاعت إسرائيل إلى حد كبير تأليب جزء من الرأي العام العالمي الشعبي والحكومي ضد الشعب الفلسطيني، وحققت إختراق بموجبه ينظر بعض المُضَللين من العالم إلى نضال الشعب الفلسطيني على أنه إرهاب يمارس بحق دولة ديمقراطية تواجه خطر مجتمعات عربية متخلفة تسيطر عليها أفكار التطرف الديني وتمارس عليها الإرهاب، وفي مناطق أخرى حققت على الأقل ما يشبه المساواة بين الضحية والجلاد بعد أن فسّرت الصراع الفلسطيني الإسرائيلي بأنه صراع على أرض متنازع عليها، وأوقعت عشرات مراكز التأثير وصناعة القرار في العالم في أسر روايتها الكاذبة.
في مقابل ما تقوم به إسرائيل، نجد المؤسسة الإعلامية الرسمية التي خصص لها مبالغ مالية كبيرة لتطويرها وتطوير رسالتها الإعلامية، تعيش حالة فصام خطيرة مع الموضوع الوطني، وما تشهده الحالة الفلسطينية الميدانية من تطورات وجرائم إسرائيلية، ولم يرق "تلفزيون فلسطين" الرسمي ووكالة "وفا" الرسمية للحالة الكفاحية التي يخوضها أبناء الشعب الفلسطيني في القدس والضفة وغزة ومناطق ال 48، ويتعامل مع الأحداث رغم خطورتها وكأنها تجري في كوكب آخر، ولم يعد غريباً أن يقوم بإلغاء شريط الأخبار العاجلة، ومواصلة بث أغاني الأطفال والبث المباشر لمراسم إستقبال الرئيس الهندي في وقت سقوط شهيد في القدس وعشرات الجرحى من مختلف المناطق !
يوجد في التلفزيون الرسمي ووكالة "وفا" كادر إعلامي متميز تجده في كل الميادين، مدرب وصاحب رسالة وطنية ويستطيع أن يقدم الأفضل، ولكن هذا الكادر يواجه بسياسات عليا تفرض قيوداً كثيرة على حركته وابداعاته، ومورست بحق عدد كبير منهم إقصاءات تعسفية لا تستند إلى المهنية بقدر ما ارتكزت على الولاءات الشخصية، ليصبح تلفزيون فلسطين منبراً لخطبة ودّ الرئيس والحاشية التي تفرض وتسمح وتستسلم لتهديدات الإحتلال الذي يفرض شروط البث ويراقبه كما يراقب كل شيء.
الفلسطينيون أصحاب قضية عادلة ونضال مشروع ضد الإحتلال الإستيطاني، يتعرضون لأبشع أنواع الإرهاب وعمليات القتل لمجرد الشك أو السير على الطرقات، يواجهون حكومة إحتلالية بلا أخلاق، تطلق العنان لعصابات التطرف لأن تقتل الأطفال والنساء وتحرق الآمنين في بيوتهم، وشاشة التلفزيون الرسمي الفلسطيني تنشغل عن نقل الحدث كأحد قنوات المواجهة مع الإحتلال وروايات الإحتلال، لتصبح مرآة القيادة الرسمية بعجزها وقلة حيلتها، وطموحها في أن تهداً إنتفاضة الشعب التي طال انتظارها.
يقال أن الإعلام ثلثي المعركة مع العدو أو الخصم، ولكنه في الحالة الفلسطينية إعلام محبط يتقاطع مع رغبات العدو، ويهدف إلى فرض استكانة مذلّة تنسجم مع توجهات القيادة الرسمية، في وقت ينهض فيه آلاف النشطاء والإعلاميين في العالم دفاعاً عن الشعب الفلسطيني وقضيته، وفضحاً لجرائم الإحتلال المتنوعة، وانجزوا مقاطعة لا بأس بها على المنتجات الإسرائيلية، وساعدوا الشعب الفلسطيني في عرض حقيقي لطبيعة الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، وقاموا بتفنيد الرواية الإسرائيلية ومحاصرة الأضاليل التي ساقتها إسرائيل أمام المجتمع الدولي إلى حد ما.
الإنتفاضة البطولية التي يخوضها أبناء الشعب الفلسطيني دفاعاً عن أرضه وحقوقه الوطنية، وعمليات التصدي لعصابات المستوطنين في كل مدن الضفة الغربية والقدس، مشاهد التحدي والإرادة التي تجابه أخطر آلة بطش وأطول إحتلال في التاريخ الحديث، بحاجة إلى إعلام حرّ منافس يساهم في تعديل المواقف والسياسات الدولية، لصيق بتجربة الفلسطينيين، يدافع عن الهوية الوطنية ويعيد تشكيل الوعي المقاوم، ويساهم في بناء جيل يحافظ على حلم الفلسطينيين في الحرية والكرامة والإستقلال ويسعى لتحقيقه، لا أن يقف غريباً في معركة الشعب وخارج سياق حركته.
ليس غريباً أن يغادر عشرات الكوادر الفلسطينية الإعلامية التلفزيون الرسمي، ويبحثوا عن خيارات أوسع لتأدية رسالتهم الإعلامية، بعد أن شعروا أن هذه المؤسسة لا تمثلهم ولا تمثل الشعب الفلسطيني، ولا تشكل لهم حصانة من التعسف الذي مارسته ادارة التلفزيون وبعض النافذين من مكتب الرئاسة، من حقهم أن يفعلوا ذلك، ومن واجبنا أن نشير إلى الخلل ونواصل عمليات الإفاقة والإنقاذ.
بقلم: محمد أبو مهادي
[email protected]