من بين واحد وعشرين شهيداً، نشرت أسماؤهم قبل بضعة أيام، أرتقوا إلى جنة الخلد، في المواجهة الدائرة منذ نحو أسبوعين بين الشباب الفلسطيني وجنود ومستوطني الاحتلال الإسرائيلي في القدس وغزة والضفة، كان تسعة عشر منهم دون العشرين عاما، بما يؤكد قاعدة تكاد تكون ثابتة في كل حلقات الكفاح الوطني الفلسطيني، وتتمثل في أن كل موجة ثورية يشهدها الواقع الفلسطيني، يطلقها ويكون وقودها الشباب المتفتح بعمر الزهور.
في حقيقة وواقع الأمر، ليست هذه هي الحقيقة الوحيدة التي تؤكدها هذه الموجة من الكفاح الوطني الفلسطيني، فمن ما زال يذكر أو يتذكر ما اتسمت به من وهم، رئيسة وزراء إسرائيل السابقة جولدا مائير، حين قالت بأن الكبار من الفلسطينيين، الذين شهدوا النكبة سيموتون بعد وقت، والصغار ممن لم يعيشوا وقائع النكبة لن يتذكروا، وبالتالي، سينتهي الصراع من تلقاء نفسه، أو مع مرور الوقت، فها هم أبناء جيل الانتفاضة الأولى، ينطلقون كما السهام، ليس اقل حماسا ولا إصرارا من آبائهم، وهم جميعا، ممن ولدوا وعاشوا بعد توقيع اتفاقات " أوسلو " وبالتأكيد بعد نكبة العام 48، وبعد نكسة العام 67 .
تؤكد هذه الموجة من الكفاح الوطني أيضا بان مخزون الشعب الفلسطيني لا ينضب، وهو الذي يجترح كل عشرة أو خمسة عشر عاما، انتفاضة أو ثورة أو هبة شعبية، تؤكد بأن الصراع مع إسرائيل إنما هو صراع النقيض ضد النقيض، لا حل وسطاً فيه، وان الحل السياسي الوسط، ما لم يغير من طبيعة ومحتوى إسرائيل في المدى البعيد أو المتوسط، فإنه لن يصمد وسيسقط، وان التعايش مع إسرائيل العنصرية، المحتلة، اليمينية / المتطرفة، ما هو إلا وهم، لسبب بسيط وهو أن الشعب الفلسطيني لن يموت، ولن يستسلم.
يكسر الشباب الفلسطيني، دون العشرين عاما، القاعدة، ويقول بأننا لن نحسب موازين القوى، حتى نثور، ولا ننتظر أن تعتدل الأحوال في المحيط العربي، ولا ننتظر وضعا فلسطينيا مثاليا، من مثل أن ينتهي الانقسام مثلا، حتى نثور بوجه الاحتلال، والأهم من كل هذا بأننا، حتى لو فقد قادتنا ودهاقنة السياسة عندها البوصلة، فنحن لا نفقدها، وستظل باتجاه الاحتلال، إلى أن تتحقق نبوءة الراحل العظيم "أبو الوطنية الفلسطينية" ياسر عرفات، بان يرفع شبل فلسطيني أو زهرة فلسطينية العلم الفلسطيني فوق مآذن وكنائس القدس.
إن المواجهة _ وحدها _ تكشف ما يتخفى، عادة تحت طاولة الخبث السياسي، وعلى الجانبين، فقد كشفت الأيام الأولى للمواجهة، حقيقة الحكومة الإسرائيلية المتطرفة، التي كانت قد اتخذت قرارا واضحا وصريحا بتوجيه التعليمات لجنودها بإطلاق النار بقصد القتل تجاه كل من يلقي الحجارة من المنتفضين الشبان الفلسطينيين، بما يعكس مستوى أكثر فاشية مما لصق بإسحاق رابين عام 1987/1988، وكان حينها وزير حرب حكومة "الوحدة" الإسرائيلية التي ضمت الليكود والعمل، حين لجأ إلى تكسير عظام "أيدي وأرجل" ملقي الحجارة.
كذلك كشفت المستوى الأكثر تطرفا للمجتمع الإسرائيلي، حين أظهرت استطلاعات الرأي، خيار الشعب الإسرائيلي بتفضيله كل من أفيغدور ليبرمان ومن ثم نفتالي بينيت على بنيامين نتنياهو في قيادة إسرائيل للمواجهة، وكشفت أيضا اندفاع "المعسكر الصهيوني" برموزه، إسحاق هيرتسوغ وتسيفي ليفني لإعلان العداء للحق الفلسطيني في مقاومة الاحتلال بدلا من المطالبة بإنهاء الاحتلال والتوصل إلى حل سياسي!
بالمقابل، كشفت المواجهة، وهي ما زالت في بدايتها، المدى الذي يتقدم فيه الشعب، وخاصة شبابه وفتياته، على قياداته السياسية والفصائلية، التي ما زالت منقسمة على ذاتها، فقد توحد الشعب الفلسطيني في كل مكان، حيث هبت كل مدن وقرى الضفة الغربية مع كل حواري القدس العتيقة، كذلك مع جماهير قطاع غزة، وفلسطينيي الداخل العظيم، الذين _ لا نبالغ _ لو قلنا بأنهم يشلون " عضد " إسرائيل أكثر من أي احد آخر، فهم المخزون الإستراتيجي للشعب وللقضية، وهم أول الوطن، وهم المعنى الحقيقي لحريته ووحدته واستقلاله!
ورغم أن المواجهة لم تعلن بعد مطالبها أو لم ترفع شعاراتها، إلا أن ما تقوله واضح كالشمس، وهو استحالة التعايش مع الاحتلال، واستحالة تقاسم الضفة والقدس مع المستوطنين والمتدينين، وانه لا بد لإسرائيل من أن تنصرف من القدس والضفة وان تأخذ بيدها الآثمة مخلفاتها الاستيطانية، وان انسحاب الاحتلال، لا يكون إلا بالمقاومة الشعبية، وان إسرائيل، لم يسبق لها وان انسحبت من أرض فلسطينية أو عربية محتلة، بعد مفاوضات سياسية، ولكن بعد ضغط مقاوم، ومن جانب واحد، وفي ليلة "ما فيها ضو" وقد فعلت هذا عام 2000 من جنوب لبنان، وعام 2005 من قطاع غزة، وكانت فعلت هذا أيضا عام 1956 من قطاع غزة، والاستثناء الوحيد كان انسحابها من سيناء بعد كامب ديفيد، وكان الثمن الباهظ خروج مصر من معادلة الحرب العربية مع إسرائيل وتوقيع أول معاهدة سلام مع أكبر واهم دولة عربية، ورغم هذا راوغت إسرائيل مصر للخروج من طابا نحو خمس سنوات!
مع الليكود، بنيامين نتنياهو، ونفتالي بينت وافيغدور ليبرمان، لا يمكن التوصل لحل سياسي "مؤقت" يمكنه أن يغير من جوهر وطبيعة إسرائيل، حتى يمكن القول بأنه يمكن التعايش معها ولو في المدى المنظور، أما مع هؤلاء وأحزابهم : الليكود، إسرائيل بيتنا، البيت اليهودي، المستوطنون وجنود الاحتلال في القدس والضفة الغربية وحاصر غزة، فلا تعايش مطلقا، ولا خيار سوى المواجهة بكل أشكالها وأدواتها ووسائلها الممكنة، وسيكون هذا عنوان العلاقة الوحيدة بين الفلسطينيين والإسرائيليين، متوارثا جيلا بعد جيل، ولن ينتهي الصراع، إلا بعد إنهاء الاحتلال أولا، وتغيير طبيعة دولة إسرائيل ثانيا، فلا تكون لا يهودية ولا عنصرية ولا مرتبطة بالاستعمار من خارج حدود المنطقة، ولابد أن تتحول إلى مجتمع يتعايش فيه المؤمنون بكل الديانات بسلام.
رجب أبو سرية
13 تشرين الأول 2015