يستخدم باحثو "علم اجتماع اللغة" تعبير "Code Switching" (وهو ما وجدت أنّ البعض يترجمه بتعبير "تبديل الشيفرة"، دلالة على تغيير المتحدث لغته أو لهجته. فما إن تجد نفسك في سياق مختلف اجتماعياً أو سياسياً... إلخ، حتى تغير طريقة الحديث باللهجة، وربما حتى منطق الحدث والفكر). ويقوم الفلسطينيون بهذه العملية ببطء منذ سنوات، والآن هناك تسريع فائق في العملية.
عندما جاءت "أوسلو" وما صاحبها من اتفاقيات، حاول البعض تغيير الشيفرة كليّاً، ووضع أسس جديدة للمنطق والفكر والفلسفة. وأذكر حيرتي وأنا أقرأ لكاتب فلسطيني يكتب حينها في مطبوعة "ثورية"، أنّه في العصر الجديد إذا استدعى الأمر التعاون مع شركة "موتورولا" الإسرائيلية فلا بأس، فالأمر الآن مصلحة الدولة الفلسطينية، وطن الفلسطينيين، بحسب منظوره يومها. وبعد "أوسلو"، صارت هناك ورش عمل للسلام بين المثقفين، وانتشر تعبير الـ"NGOs"، للتعبير عن نمط جديد من المنظمات غير الحكومية المتصلة بالتمويل الغربي وأجنداته، هذا رغم أنّ الجمعيات الأهلية الفلسطينية كانت قبل ذلك جزءا من الثورة والنضال.
لقد كان "تغيير الشيفرة" كبيراً؛ ففلسطين كانت تتقزم لتصبح الضفة الغربية وقطاع غزة، ومنظمة التحرير تتنحى لصالح "السلطة"، و"حركة التحرير" تتنحى لصالح "التنظيم"... إلخ.
على مدى سنوات، كان خطاب "أوسلو" يضعف ويختفي، بفضل الاستيطان الإسرائيلي والطمع الصهيوني الرافض لحل الدولتين، والإصرار على أخذ كل شيء، من دون أي حل وسط. وعلى سبيل المثال، صارت محاولات التطبيع مع الإسرائيليين على المستويات الثقافية والندوات واللقاءات (من قبل الـNGOs) محدودة جداً، وتجري -كما الجريمة- بصمت وسرية، وما يصل إلى العلن يواجه بناشطين يذهبون للفنادق والقاعات التي تسمح لنفسها باستضافة هذه النشاطات ويجري فضحها ووقفها بقوة الرأي العام الوطني. وتبرأ كثيرون من أي نشاط "تورطوا" فيه في الماضي. ثم تجددت عملية المقاطعة الاقتصادية، وسقط (إلى حد كبير) تقسيم فلسطين؛ فعادت الحركة الوطنية الفلسطينية تلتقي في نشاطات موحدة في كل فلسطين التاريخية، فضلا عن الشتات. ففي قرية باب الشمس، المضادة للاستيطان، التقى أبناء وبنات سخنين وعكا وأم الفحم وغيرها (من أراضي الاحتلال الأول، العام 1948)، مع أبناء البيرة وبيت لحم وغيرهما (أراضي الاحتلال الثاني، العام 1967)، وتوحدوا في رفض "مخطط برافر" (في النقب المحتلة العام 1948)، وهكذا. كان هذا تغييرا في الشيفرة، سببه الاحتلال الذي رفض عرض القيادة الفلسطينية بأن يتجرع الفلسطينيون حل الدولتين المر كالعلقم وأكثر.
كل هذا بدا أنّه وصل ذروته وبدأ الانحدار، وبدت حركة المقاومة الشعبية كمن تفقد وقودها، وأنها تتعرض لهزات لأسباب كثيرة. وتعزز المخطط الاستيطاني الإسرائيلي الذي يريد أن يخطو خطوتين جديدتين. أولاهما، تغيير واقع المسجد الأقصى والقدس. والثانية، توسعة المستوطنات في المناطق (ج)، وتحقيق طرد سريع وبطيء للفلسطينيين من هناك. وبدت انتفاضة فلسطينية جديدة فرصة سانحة لتحقيق هذا، بالقيام بعمليات طرد، مع التذرع بأنّ هذا رد فعل غاضب على عمليات فلسطينية. ومن هنا وجدنا الخطاب الرسمي الفلسطيني يحذر من ذلك، من دون الأخذ بالاعتبار بأنّ للانتفاض وسائل وأشكال كثيرة، من مسؤولية القيادة تحديدها، لا التحذير من أشكالها غير المناسبة وحسب.
العمليات الفردية التي تكررت على نحو مذهل فلسطينيا، خلال الأيام الماضية، هي "تبديل في الشيفرة". ولجان حراسة القرى، هي "تبديل في الشيفرة"؛ يخبر المستوطنين كم هم واهمون عندما يتخيلون أن اجتياحهم الأراضي الفلسطينية يمكن أن يجري بذات سهولة اجتياح جيشهم للجيوش العربية العام 1948 أو العام 1967، كما تخبر القيادة أنّ "منطق الحركة الشعبية" يسبق الرسمي دائماً.
لدى الشعوب الواقعة تحت الاحتلال، والفلسطينيين، القدرة على تغيير الشيفرة والعودة للهجة الحقيقية. حاولوا ويحاولون الحديث باللهجات واللغات التي يفهمها مسؤولو الحكومات الغربية الذين تخلوا عنهم في الأمم المتحدة نهاية الشهر الماضي؛ حاولوا إظهار أقصى مرونة ممكنة. والآن، اضطرهم عدوهم، ويضطرون هم، للحديث بلغة سيشاهدها خصومهم أكثر مما سيسمعونها. ويمكن لقيادة حكيمة أن تحدد لغة المرحلة بحكمة؛ من دون مصادرة الطابع الشعبي غير المركزي، ولكن مع برامج واضحة جامعة. حينها، سيأتي القادة الذين أهملوا فلسطين الشهر الماضي في نيويورك، لتعلم اللهجة الجديدة، والحديث مع الناطقين بها.
أحمد جميل عزم/ "الغد" الاردنية