قراءة في الهبّة الشعبية الفلسطينية

بقلم: رامز مصطفى

مهما تكن قراءتنا للهبة الشعبية التي فجرها الشباب الفلسطيني في وجه الاحتلال " الإسرائيلي " من دون قرار لتنظيم أو فصيل ، - لا يعني أنها نقيصة للفصائل والقوى السياسية الفلسطينية ، فالانتفاضة الأولى عام 1987 لم تكن بقرار سياسي من فصيل أو مجموع الفصائل ، بل جاءت رداً بشكل مباشر على عملية دهس متعمد لستة عمال فلسطينيين في قطاع غزة من قبل أحد المستوطنين الصهاينة ، لتتدحرج الغضبة الشعبية آنذاك نحو انتفاضة شاملة في القطاع والضفة - . فإنني أرى في هذه الهبة بارقة أمل جديدة ، قد فتحت ثغرة كبيرة في جدار الأفق المغلق في وجه تظلعات شعبنا ، الباحث عن نيل حريته واستقلاله الوطني الناجز فوق كامل ترابه الوطني فلسطيني . ودماء هؤلاء الشبان الفلسطينيين وتضحياتهم وكفاحهم في كل من القدس والضفة والقطاع والأراضي الفلسطينية المغتصبة عام 1948 ، هي من أسهمت في فتح هذا الأفق ، ملقيةً حجراً كبيراً في مياه رتابة المشهد الكفاحي لشعبنا ، الذي من شأنه قلب الكثير من المعادلات إذا ما تمكنت هبة شعبنا في الإفلات من محاولات احتوائها نحو انتفاضة ثالثة ، والمطلوب حمايتها من الوقوع في شرك التثمير السياسي كرافعة لاستئناف المفاوضات البائسة والعقيمة .
البعض حاول بشكل بائس أن يُظهر الهبة الشعبية للشباب الفلسطيني على أنها جاءت انعكاس لحالة الإحباط واليأس التي يعيشها الشعب الفلسطي ، وهذا البعض لم يمنح نفسه ولو لبعض من الوقت القصير قبل الخلاصة المشككة حد الاتهام أنها مجموعة محبطة ويائسة لا أمل أو مرتجى منها . واليوم وبعد أن وصل عداد أيام الهبة إلى الأسبوعين وعشرات الشهداء والجرحى ، وأعمال مقاومة بما تيسر لهؤلاء الشبان من أدوات ووسائل وأساليب تُعِينهم على مقارعة الاحتلال وإرهاب مستوطنيه ، لتعم هبتهم سائر الأراضي الفلسطينية من أعمال الطعن والدعس وإلقاء الزجاجات الحارقة ورشق الحجارة ، وحتى إطلاق النار على الحافلة التي يستقلها مستوطنون في القدس المحتلة . ماذا سيتفوه هذا البعض عن الهبة الشاملة ، التي تذهب حثيثاً نحو الانتفاضة الثالثة ؟ ، هل سيبقون عند رأيهم أن هؤلاء ليسوا سوى شبان فقدوا كل أمل في المستقبل ؟ . أجزم أنه يتغير تبعاً للتطورات المرشحة نحو مزيدٍ من التأزم والتصعيد والمواجهة في ظل استمرار الاحتلال وحكومة نتنياهو في إجرامهم وتنفيذهم الإعدامات الميدانية بحق شبابنا وأطفالنا وفتياتنا ونسائنا ، وارتفاع وتيرة الاستباحات والإقتحامات للمسجد الأقصى وتدنيس باحاته .
والبعض الآخر أطلق على شبان الهبة الشعبية توصيف " جيل أوسلو " ، من دون أن يُدركوا أو لا يُدركون ، أن هذا التوصيف لايليق بتضحيات ونضالات هؤلاء الشبان في تصديهم ومواجهاتهم لقوات الاحتلال وقطعان المستوطنين المنفلتين بمواكبة وحماية الشرطة " الإسرائيلية " هذا أولاً ، أما ثانياً أن هؤلاء الشبان ليسوا " جيل أوسلو " الذين فرطّ وتنازل ، بل هم جيل ما بعد " أوسلو " ، الذي اكتوى بما جلبته هذه الاتفاقات من كوارث وطنية على عناوين القضية الفلسطينية ، والتي تنازلت عن 78 بالمائة من أرض فلسطين ، ومن كوارثها أن الاستيطان ازداد وتفشى وانفلت بطريقة غير مسبوقة ، وعاصمة فلسطين مدينة القدس تهود فوق الأرض وتحتها ، والمسجد الأقصى يعملون على السيطرة الكلية عليه ، وفوق ذلك حصار مطبق على قطاع غزة ، وأعداد الأسرى في ازدياد ، وتنسيق أمني وفرّ على الاحتلال أن يكون احتلالاً مكلفاً ، بل حوله ليكون الأرخص بسبب هذا التماهي والإفراط في التعاون الأمني الذي لم يتوقف حتى اللحظة ، ولو أن هذا الجيل هو جيل " أوسلو " لكان تطبع بثقافته ، ومُسحت داتا ذاكرته الوطنية لصالح ثقافة الخنوع والإذعان والإستسلام ، والتسليم بالاحتلال كأمر الواقع .
صحيح أن هؤلاء الشبان يفتقدون إلى القيادة ومركز التوجيه والتحرك في الشارع ، ولا توجد لديهم غرفة عمليات تدير عمليات الطعن والدعس ورشق الحجارة واقتحام الحواجز وسياجاتهم المصطنعة بين مناطق الوطن الواحد . وهذه ليست من العيوب ، بل غيابها أقله إلى هي من إيجابيات ما يجري على الأرض الفلسطينية هذه الأيام ، في سياق الهبة التي تطرق أبواب الانتفاضة الثالثة وهي قريبة ، بعكس ما يتمناه البعض أن تبقى على وضعها الذي بدأت به ، على شاكلة الطفرة ليس إلاّ . الأمر الذي يُحتم على الفصائل وفي ظل انسداد أفق المصالحة وإنهاء الانقسام ، أن تشكل هذه الهبة العنوان الوطني الذي تلتقي عنده وحوله ولأجله هذه الفصائل وعلى وجه السرعة من دون أية شروط أو اشتراطات مسبقة من أي فصيل من الفصائل . خصوصاً أن هناك مؤشرات مشجعة تقع في سياق دعوات الجميع للقاء حول الهبة وضرورة رعايتها والإحاطة بها ودعمها وحمايتها ، وتحديد رؤية موحدة حول الأهداف في سياق يجب تثمير الهبة أو الانتفاضة عندما نصل إليها ، بالمعنى الوطني والسياسي الذي يصون دماء وتضحيات أبناء شعبنا وفي مقدمتهم الشباب الفلسطيني ، هذا من جهة ، ومن جهة أخرى فإن الفصائل تُدرك جيداً وعلى ضوء التجارب السابقة ، ألاّ تستعجل عسكرة الهبة أو الانتفاضة ، على أن يُترك الأمر رهن التطورات ، وما يتم الاتفاق عليه في أولويات عناوين المقاومة ومندرجاتها وأدواتها وأشكالها . وبالتالي إبقاء قطاع غزة على تحركاته الراهنة من إسناد ودعم ومشاغلة الاحتلال في مناطق غلاف القطاع ، من دون أن نسمح لحكومة نتنياهو أن تهرب أو تُهّرب مآزقها المتراكمة والمتدحرجة ، على حساب ما تشهده أراضي الضفة والقدس من أعمال انتفاضة . في تموز من العام 2014 أقدمت مجموعة من المستوطنين على حرق الفتى المقدسي الشهيد محمد أبو خضير حياً . فهّبت القدس والضفة على أثر ذلك ، يومها نتنياهو كان قلقاً جداً ، فذهب إلى حرب ضد قطاع غزة حتى يُخمد الهبة التي كانت تسير حثيثاً نحو انتفاضة ثالثة . لأن الضفة تمثل الخطر الإستراتيجي على الكيان ومخططاته .
وإذا أطلقت المقاومة صواريخها في هذا التوقيت فالمستفيد هو الكيان ونتنياهو . وهذا الأمر يجب أن يبقى رهناً للتطورات ليُبنى على الشيء مقتضاه .
وما يجري في الأراضي الفلسطينية منذ ما يزيد عن الأسبوعين ، مختلف تماماً عما جرى خلال الانتفاضتين السابقتين عام 1987 و 2000 ، من حيث شمولها كل الأرض الفلسطينية من بحرها إلى نهرها ، وهذا ما يُرعب الاحتلال وحكومة نتنياهو . فالمناطق المغتصبة في العام 1948 ، لطالما اعتبرها الاحتلال الصهيوني بأنها خارج أية حسابات ، على اعتبار أنه يبني أوهام تطلعاته وأحلامه ومستقبله على أن الأرض الفلسطينية عام 1948 في أسوأ نتائج أية عملية سياسية مع السلطة راهناً أو مستقبلاً ، ستُشكل " دولته اليهودية " المزعومة ، وأن لا مستقبل للفلسطينيين في تلك " الدولة " الهجينة . وهو لا يدرك أن لا مستقبل له مطلقاً على الأرض الفلسطينية مهما طال الزمن . من هنا تنظر حكومة نتنياهو بعين القلق والخوف على هذا المستقبل الذي لم يعد مضموناً في ظل هذا التطور الخطير بالنسبة لتلك الحكومة الصهيونية . ومن المؤكد أن الدوافع وراء تحرك أبناء شعبنا في مناطق الجليل والمثلث ووادي عارة والنقب ، هي ذات الدوافع التي حركت شبان الضفة والقدس وغزة ، حيث الاحتلال الغاصب بجرائمه وممارساته وقوانينه العنصرية يقع في أولويات تلك الدوافع . وبالتأكيد يجب البناء على تحركات أهلنا داخل ما يسمى " الخط الأخضر " ، ولا يجوز في أي حال من الأحوال القول أو الإيحاء أن أمرهم لا يعنينا كونهم وكما يعتقد العدو الصهيوني واهماً أنهم خارج أية حسابات فلسطينية بالمعنى السياسي أو الوطني ، الأمر الذي سيوظفه الاحتلال في فرض المزيد من قوانينه العنصرية الجائرة بحق ما يزيد عن مليون وثلاثمائة ألف فلسطيني .
الهبة الشعبية للانتفاضة الثالثة يعول ويُبنى عليها في تصحيح مسار ما أوقعتنا فيه اتفاقات " أوسلو " ومتطلباتها من ارتهان اقتصادي وأمني وسياسي ، يُثّمره الاحتلال في فرض ابتزازه من أجل المزيد تقديم المزيد من التنازلات لصالحه ، على حساب عناوين قضيتنا الوطنية . وبالتالي هذه الهبة بشموليتها كل الأرض الفلسطينية ، تأتيا رد على منطق " أوسلو " الذي تنازل عن 78 بالمائة من أرض فلسطين ، فهي اليوم تعيد رسم حدود الوطن الفلسطيني على مساحة 27009 كم2 . وثانياً كسر فكرة السيطرة على المسجد الأقصى ، التي يعمل عليها الاحتلال لتتحول إلى واقع مفروض ، من خلال التقسيم الزماني والمكاني ، وصولاً إلى وضع اليد بالمطلق عليه ، لإشادة ما يسمونه زعماً " الهيكل " . أما ثالثاً ، نعم الهبة الانتفاضة وحدها المأمول منها أن تعيد تصويب البوصلة باتجاه فلسطين وقضية القدس والمسجد الأقصى ، بعد أن تمكنت الأحداث والحروب التي تشهدها العديد من دول المنطقة منذ خمس سنوات ، من سحب القضية الفلسطينية من سلم أولويات العرب والمسلمين ، لتصبح في أخر سلم تللك الألويات .

رامز مصطفى