كتبت إبان حرب غزة في العام 2014، مقالا بعنوان "عندما لا تعود "فتح" الرقم الصعب"؛ أشرت فيه إلى أنّ الحرب "تأكيد عملي بأنّ الحركة فقدت مكانتها القيادية وفقدت دورها المؤثر". أمّا الآن، فيمكن القول إنّ الحركة هي الرقم الصعب في سياق الانتفاضة الراهنة؛ ولكن ليس بما فعلته، بل بما يمكن أن تفعله، أو تعيقه. فحالة الترقب هي لما ستفعله الآن. ووفق منطق التحدي والاستجابة، فإن الحركة إن لم تقم بالاستجابة المناسبة، قد لا تبقى الرقم الصعب مستقبلا.
كان الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات، يفاخر بأنّه هو "وحركته" يمثلان الرقم الصعب؛ أي أنّ قرار الحرب والسلام في الشأن الفلسطيني يمر عبرهما، وأنّ الحدث اليومي الفلسطيني يتشكل إلى حد كبير بقرار منهما، أو بحسب رد فعلهما. ومثلا، لا يمكن توقيع اتفاقية سلام إقليمية من دون توقيعه.
في العام الماضي، لم يكن لحركة "فتح" يد لا في بدء المواجهة في غزة، ولا في تقرير كيفية رد الفعل، وكانت المفاوضات تجري مع "حماس"، وتحديداً معها في غزة، من دون اعتقاد أنّ موقف القيادة الرسمية لمنظمة التحرير الفلسطينية، و"فتح"، له أهمية حقيقية حاسمة في تقرير متى تبدأ أو تقف المواجهة. وبدا أنّ أقصى دور يمكن لها القيام به هو السعي إلى التوصل إلى تهدئة، أي "الوساطة"، وليس لديها قدرة اتخاذ أي قرار فلسطيني ملزم، كما كانت في الماضي.
الآن، انطلقت سلسلة عمليات فلسطينية في القدس والداخل الفلسطيني، تساندها مواجهات جماهيرية قوامها شبان فلسطينيون في نقاط التماس مع العدو، قرب الحواجز والمستوطنات. وما يزال الجدل قائما بشأن ما إذا كان ما يحدث يسمى انتفاضة، أم هبة، أم ماذا.
بغض النظر عن التوصيف للحظة الراهنة، فإنّ استمرار المواجهة وتوسعها لتكون انتفاضة شاملة، يتطلب قراراً واضحاً (حتى إن لم يكن معلناً) من قبل الفصائل، وفي مقدمتها حركة "فتح". وذلك لعدة أسباب؛ أولها، أنّ الحركة هي الخزان البشري الأهم، بأعضائها ومؤسساتها وتنظيمها في أراضي الضفة الغربية. وهي التي لديها التنظيم العلني والشعبي الواضح. وهي التي ينتمي لها غالبية قادة وأعضاء الأجهزة الأمنية.
ربما يشترك شباب الفصائل والتنظيمات السياسية و"فتح" في المواجهات الراهنة، لكن هذا من دون قرار تنظيمي. ولا توجد برامج تنظيمية فصائلية للانتفاض والعمل الثوري الشامل.
دخول "فتح" ببرنامج شعبي للمرحلة المقبلة، يعني عدا القدرة على حشد جماهير شعبية ومؤسسات ومنظمات خلفها، ضوءاً أخضر لباقي الفصائل لدخول الساحة. وسيكون ذلك وفق قواعد عمل تتحدد إلى حد كبير وفق رؤية "فتح" خصوصاً. إنّ حركتي "حماس" و"الجهاد الإسلامي" تقومان هذه المرة بحسابات حذرة ودقيقة في تحديد خطواتهما، حذرا من دخولهما مواجهة مع الاحتلال في قطاع غزة، تحرف البوصلة عن ساحة المواجهة الحقيقية الراهنة، والتي يمكن تسجيل نقاط فيها ضد الاحتلال، بقوة التحرك الشعبي، في كل من أراضي الاحتلال الأول العام 1948، والضفة الغربية.
تشكل "فتح" في هذه المرحلة الرقم الصعب، لأنه من دون انخراط كامل لها في الانتفاض الشعبي، تصعب رؤية حراك شامل منظم سريع، وسيبقى الأمر في إطار المبادرات الشبابية الفردية أو المحدودة، وخصوصاً أنّه تصعب رؤية الحركة تتقبل بروز قيادة شعبية "منافسة" توجه الشارع وتوافق "فتح" على التزام الجميع بقراراتها بما في ذلك تنظيمها.
وعدا عن استعادة جزء من مكانتها، تكسب "فتح" من التصدي لمهمة قيادة الفعل الشعبي، تحديد قواعد المواجهة. لكن في حال عدم تصدي الحركة لهذه المهمة، التي قد يتضح مستقبلا أنّها من فرصها الأخيرة في الحفاظ على إرثها وتاريخها، سيفكر الشبان الذين سيحبطهم عدم المساندة وعدم التجاوب، في كيفية تجاوز مأزق هذا التخلي الفصائلي عنهم، وخصوصا من قبل حركة "فتح"، التي سيبدو أنّها -باعتبارها الرقم الصعب- كانت العائق الصعب، ولن ترضيهم شعارات وعبارات التأييد اللفظي.
إذا لم تحدث الاستجابة المناسبة، ولم تطور وتستمر الهبة الحالية، سيتجه عدد متزايد من الشبان إلى العمل خارج إطار الفصائل الحالية، وخصوصاً "فتح"؛ وسيفكرون بأطر تنظيمية وأطر عمل جماعي مختلفة لتأطير هباتهم المقبلة.
أحمد جميل عزم