بعد مرور نحو ثلاثة أسابيع على بدء موجة كفاحية، تتصاعد بروافع جديدة، وبـ"ديناميات" ذاتية الاشتعال، ما يزال المعنيون بالشأن الفلسطيني يواصلون سجالاتهم، ويجهدون عقولهم، حول ما إذا كانت هذه المواجهات، التي فاجأت سائر المخاطبين بها، انتفاضة ثالثة طال انتظارها، أم أنها مجرد هبّة شعبية أخرى قصيرة المدى.
في المقابل، لا يبدو أن المنخرطين في هذه المواجهات على الأرض، يعيرون بالا لهذا السجال، أو أنهم مكترثون كثيراً لأي من التسميتين أصح في تشخيص هذه الحالة العصية على فهم ذوي التحليلات النمطية السائدة، ناهيك عن الرغائبيين والمؤولين والمأخوذين بسحر الماضي، بما في ذلك سحر انتفاضة الحجارة المجيدة.
وأحسب أن لكل ظاهرة اجتماعية سياسية مركبة، خصوصاً إذا كانت ثورة أو تمرداً شعبيا، أو شيئاً متراوحا بين هذا وذاك، منطقا خاصا بها، يحدد سماتها الأساسية المميزة، ويبلور شخصيتها الخاصة، أو قل هويتها المستقلة، ويحكم تطورها، فيما بعد، بصورة مغايرة عما سبقها من ظواهر مشابهة، جرت في ظروف أخرى، وبقوى دفع مختلفة.
وبدلالة التسمية غير المجردة هذه، وسيرورة تفاعلاتها الموضوعية، فإن ما نحن بصدده الآن ليس انتفاضة على الأرجح، ولا هبّة بالضرورة، وإنما هو صحوة فلسطينية طالعة لتوها من مخاض تجربة إنسانية فريدة، تضافرت على إعادة إنتاجها خبرات الماضي القريب ودروسه القاسية، وكونت فاعلياتها عوامل ذاتية وأخرى موضوعية، التقطها جيل جديد.
ذلك أن ما يتراكم من خاصيات فارقة، وتعبيرات مميزة لهذه المواجهات، قياسا بما سبقها على هذا الصعيد، يقول لنا: إن قاطرة هذه المواجهات فتيان وفتيات، لا يمتلكون خبرات نضالية، وليس لديهم أطر تنظيمية، وفوق ذلك لا سلطات قيادية موجهة لهم. غير أنهم يمتلكون بالفطرة، وبالإدراك اليومي المباشر، وعياً جنينياً مبشراً باقتراب يوم قيامة فلسطينية.
ومع أن الخاصيات السالف ذكرها قد تشكل نقطة ضعف بنيوية في المدى القريب، إلا أنها تنطوي في الوقت ذاته على عدد من الإيجابيات التي يمكن البناء عليها، لاسيما أن الأرضية الكفاحية ما تزال شديدة الخصوبة، والمناخ السياسي يبدو مواتياً لتحسين شروط المواجهات، وإكسابها مزيداً من الزخم، وتخليصها من الهنات التي تصاحب كل البدايات.
كان لافتاً بحق، أن اثنين من الشهداء قد أوصيا، كل على انفراد، بعدم السماح لفصيل ما بتبني اسمه، والاستثمار تنظيميا في دمه. فقد كتب الشاب فادي علوان، طالب كلية الحقوق، على صفحته في "فيسبوك" قبل استشهاده، بمنع تصنيفه فصائلياً. فيما غردت الفتاة بيان عسيلة على "تويتر"، عشية استشهادها: لا راية فصائلية في جنازتي. وقالت بالعامية: "صيت شهيدة ولا راية فصيل".
وحسنا فعلت الفصائل إذ تنحت جانباً عن تصدر هذه الموجة الواعدة بيقظة فلسطينية من بيات طويل، إن لم نقل إنها السنونو المبشر بربيع جديد. فقد اختفت الرايات الملونة في الجنازات، وتوارت عن الأنظار حتى في المواجهات؛ حيث لف العلم الفلسطيني وحده الجثامين الغضة لهؤلاء الشباب والشابات المدهشين ببسالتهم، وبوصاياهم المؤسسة لخطاب وطني فلسطيني جديد، والممهدة لمرحلة قد تقطع مع سلبيات ماضٍ ليس كله تليداً.
صحيح أن الفصائل لم تسلّم تماماً بإخراجها من المشهد، وأن بعضها يحاول حرق المراحل، دافعاً بهذه الموجة الشعبية إلى العسكرة (شرط أن يتم ذلك بعيداً عن نطاق سيطرته) على نحو ما تلح عليه حركة حماس بشدة، فيما يحجر أمنها على المتضامنين في غزة الاقتراب أكثر من نصف كيلومتر من السياج الفاصل؛ إلا أن من الصحيح في المقابل، أن ما ترسخ في الوعي العام من دروس عميقة، حفرتها عسكرة الانتفاضة الثانية في الذاكرة، يشكل سداً ما يزال منيعاّ ضد إعادة تخليق تلك الكارثة.
ليس غرض هذه السطور التعريض بالفصائل، ولا الافتئات على دورها التاريخي في إطلاق الثورة المعاصرة، غير أن المعطيات التي تغيرت كثيرا، فضلا عن الحقائق المكتسبة من التجربة ذاتها، تدل دلالة قاطعة على أن هناك جيلا جديدا، بوعي جديد، قد تقدم الصفوف، وراح يتصدر المشهد الراهن، بمضاء قد يستطيع معه كسر حلقة المراوحة الطويلة، وتقديم الجواب الشافي عن أسئلة هذه المرحلة.