وليكن شعارها "دحر الاحتلال ونيل الاستقلال"

بقلم: علي الصالح

مع دخول "الهبة الفلسطينية" أسبوعها الرابع، وليس ثمة ما يشير إلى أنها قد تخبو على الأقل على المدى المنظور.. يقدم فيها الشعب الفلسطيني خيرة شبابه وشاباته شهداء، بلغ عددهم حتى يوم الخميس 59 شهيدا وحوالي ألفي جريح.. تتحرك قوى الظلم والاستبداد، لاحتواء هذه أو بالأحرى وأدها قبل أن تتسع وتحرق الأخضر واليابس.
فها هي الحياة تدب مجددا في وزير الخارجية الامريكي جون كيري فيصل إلى المنطقة زاعما بأنه اتفق مع رئيس الوزراء الاسرائيلي بنيامين نتنياهو حول جملة من الخطوات لوقف التحريض وتحقيق الهدوء..
حتى في كلامه لا يتجاوز وزير خارجية زعيمة "العالم الحر" المصطلحات الإسرائيلية.. وهل يحتاج يا "جوني" شعب محتل ومضطهد ومهضوم الحقوق إلى من يحرضه على الانتفاض لنيل حقوقه؟
ها هو وزير خارجية "شرطي العالم المتقاعس" يستيقظ من سباته العميق ليكرر المكرر.. ويعيد على مسامع العالم اسطوانته المشروخة، وقف العنف للعودة إلى طاولة المفاوضات التي فاض منها كيل الفلسطينيين، بدون أن يُبين أو يحدد ماهية هذه المفاوضات وفترتها الزمنية بعد مرور اكثر من20 عاما على انطلاقتها. وعندما يحدد الفلسطينيون ماهية هذه المفاوضات ويربطونها بجدول زمني يرفضها كيري وتستخدم واشنطن كل إمكانيتها لإحباط المحاولة الفلسطينية.
وسبق كيري إلى المنطقة بان كي مون الأمين العام للأمم المتحدة القلق دائما، في محاولة لدعوة الاطرف إلى نبذ ما سماه العنف، واستعادة الهدوء في المنطقة ،وكأن الهدوء هو الحل النهائي الذي يصبو إليه الشعب الفلسطيني. وباءت محاولات بان كي مون بالفشل واختتمها بكفر أغضب حتى المسؤولين الفلسطينيين حين ساوى بين "الضحية والجلاد"، بين شعب محتل يقاوم لإنهاء الاحتلال وقوة احتلالية غاشمة تحرمه أبسط حقوقه وتنتهك بإجراءاتها وأفعالها كل القوانين الدولية الانسانية وترتكب ابشع جرائم الحرب والجرائم ضد الانسانية وكل الجرائم على وجه الكرة الأرضية بالإعدامات الميدانية للاطفال والشباب تحت سمع وبصر "العالم الحر" ولا حراك.
كل هذه التحركات وما وراءها من مؤامرات لن تكون ذات معنى أو جدوى، إذا لم تجد آذانا فلسطينية رسمية صاغية.. ونأمل ألا يقع المسؤولون الفلسطينيون كما في المرات السابقة في الفخ مجددا لثلاثة أسباب:
أولا لان الغرض من هذه التحركات، ولا اكشف سرا بما أقول، ليس إلا وقف هذا الزخم الفلسطيني والهبة الشعبية والطرق الإبداعية في المقاومة، التي أربكت الاحتلال وتثير الرعب في صفوفه حتى أصبح جنوده يتخبطون بافعالهم… مقاومة خلاقة وقودها شباب لا يهاب جنود الاحتلال ولا مخابراته ولا زلمه ولا إجراءاتهم التعسفية وأدوات قتلهم.. شباب يتصدى لهم ولقطعان المستوطنين بصدورهم وسلاحهم الأبيض.. شباب لا ينتمي إلى فصائل أو هكذا يبدو.. وشباب قرر بعد أن شعر بالخذلان داخليا وخارجيا، أن يمسك بزمام الأمور بعد أن فاض به الكيل وهو يشاهد بأم عينيه الارض تضيع من بين يديه والمقدسات تدنس والحرمات والكرامة تداس امام أنظار العالم ولا حياة لمن تنادي. شباب فاجأ واشنطن وتل أبيب وغيرهما من عواصم العالم عربية كانت أم غربية، بعد أن ظنوا مخطئين بأن هذا الجيل قد دجن وليس أمامه سوى أن يرفع الراية البيضاء.. وكما في كل مرة خيب ظنونهم… فهم لا يعقلون.
ثانيا لأن الإدارة في البيت الأبيض "بطة عرجاء" كما يقولون، عاجزة وهي على أبواب الرحيل، عن فعل شيء لو افترضنا صدق النوايا وهي بالتأكيد غير صادقة..
ثالثا لأن الحكومة الإسرائيلية العنصرية الاستيطانية الدينية المتعصبة غير مؤهلة وغير معنية بالتوصل إلى تسوية، وأن الانسحاب من أراضي 1967 يناقض كل معتقداتها، واختارت أن تدير الأزمة لا السعي لحلها.
والحال كذلك تتجه أنظار الفلسطينيين جميعا مؤيدين ومعارضين، صوب المقاطعة في رام الله، يحدوهم الأمل في أن يفي الرئيس أبو مازن بما وعد به في ختام خطابه في الدورة السبعين للجمعية العامة للأمم المتحدة في الثلاثين من سبتمبر الماضي، وكرر الوعد لدى عودته إلى فلسطين وفي خطابه بمناسبة رأس السنة الهجرية الجديدة…
أبو مازن وضْع "قنبلته" على طاولة الأمم المتحدة فالتقطها فتيان شعبه قبل غيرهم ونزعوا فتيلها وفجّروها في وجه الاحتلال في هبة/ انتفاضة لا يزال العالم محتارا بالاسم الذي يطلقه عليها.. والشيء بالشيء يذكر فإن مصطلح "الانتفاضة" التي فجرها أطفال الحجارة عام 1987، دخل كمفردة في قاموس أوكسفورد. وإن شاء الله ستستمر "الهبة" لتدخل التاريخ أيضا.
ابو مازن كان في كلماته واضحا.. وضوحا لا لبس فيه ولا يمكن تأويله "لن نلتزم بما لا يلتزمون به" بكل الاتفاقات الموقعة بين الطرفين.. وهم أي الاسرائيليون لم يلتزموا في الماضي لا فعلا ولا قولا.. ولا يلتزمون الان.. ولن يلتزموا في المستقبل.
عهدنا بأبو مازن أنه إن وعد وفى، وكلنا أمل أن يبقي على الوعد.
لقد حانت لحظة الحسم ومواجهة الحقيقة واتخاذ القرار الشجاع بالوقف الفوري للتعامل مع كل الاتفاقات السابقة.. كي تعطي القيادة الفلسطينية المصداقية للوعود، بقرن القول بالفعل، ما يسمح لها باستعادة مصداقيتها أمام نفسها أولا، وأمام شعبها ثانيا، وأمام العالم ثالثا. وكي لا تضيع هذه الفرصة الذهبية للم شمل شعبها من حولها، وتمارس قولا وفعلا، قيادتها له وتصور مسار سياستها بعد طول تخبط وضياع وتيه في غياهب مفاوضات عبثية ولهث وراء سراب وعود وحلول أمريكية كاذبة.. وعود مر عليها اكثر من 22 عاما أعادتنا إلى الوراء وكادت أن تضيع الحقوق وضاعفت الاستيطان وعززت الاحتلال وأدوات قتله، وأوصلتنا إلى ما نحن فيه.
الكرة الآن في ملعب القيادة الفلسطينية.. فإما أن تسددها في الاتجاه الصحيح وتسجل الهدف المأمول فتكسب ثقة شعبها الضائعة، وأما أن تضيعها كما أضاعت غيرها الكثير من قبل.
ابو مازن قال "إما أن تكون السلطة الوطنية الفلسطينية ناقلة للشعب الفلسطيني من الاحتلال إلى الاستقلال، وإما أن تتحمل إسرائيل سلطة الاحتلال، مسؤولياتها كافة". وهذا ليس له الا تفسير واحد ألا وهو حل السلطة لأنها في وضعها الحالي عاجزة عن حماية شعبها ناهيك عن نقله من الاحتلال إلى الاستقلال.
إسرائيل لن تبادر إلى حل السلطة لأن حلها سيشكل كابوسا لها، فالأعباء الاقتصادية والأمنية التي ستقع على كاهل سلطات الاحتلال ستكون غير محتملة باعتراف الإسرائيليين أنفسهم. صحيح أن اضرارا ستلحق بالضفة الغربية واقتصادها، ولكنها لن تقارن بحجم الخسائر الإسرائيلية، والأهم أن مسؤوليتها ستقع على كاهل سلطة الاحتلال. فعلى سبيل المثال لا الحصر كان عدد العاملين لدى الإدارة المدنية لسلطات الاحتلال في الضفة الغربية لا يتجاوز عشرة آلاف.. في حين يصل عدد الموظفين الحكوميين لدى السلطة الآن إلى حوالي 150 ألفا يضاف إلى هذا العدد المتقاعدون. ويتساءل مصدر اقتصادي إسرائيلي من سيتحمل ميزانية هذا الكم الهائل في ما لو حلت السلطة او انهارت؟ ومن سيدير المكاتب والخدمات؟
هذا على الصعيد الاقتصادي اما على الصعيد الأمني فإن غياب السلطة يعني وقف التنسيق الأمني الذي تقدم بموجبه الأجهزة الأمنية الفلسطينية لنظيرتها الإسرائيلية، على سبيل المثال لا الحصر، خدمات جليلة على صعيد المعلومات الاستخبارية والإنذارات المبكرة عن عمليات محتملة. وهذا بحد ذاته يحتاج إسرائيليا إلى طاقات وكفاءات بشرية وإدارية إضافية مما يضاعف من أعبائها. غياب التنسيق الأمني سيفرض على سلطات الاحتلال وأجهزتها الأمنية نشر مزيد من عناصر الأمن والجيش في المدن والقرى الفلســطينية… ولذلك طبعا انعكاسات مالية.
وبالأهمية نفسها فإن وقف التنسيق الأمني هو مطلب وطني تنادي به كل الفصائل ويزيح عقبة تقف في طريق لم الشمل الفلسطيني. ليبادر الفلسطينيون ويفرضون الدولة على الارض بما عليها من واجبات وحقوق.. الدولة تحت الاحتلال التي تعترف بها اكثر من137 دولة.. وبذلك تضع العالم أمام مسؤولياته.
وأخيرا ليكن شعار هذه المرحلة "هبة التخلص من نير الاحتلال وطرد قطعان مستوطنيه وتحقيق حلم الدولة المستقلة وعاصمتها القدس الشرقية" وهو شعار سيلتف حوله ويتمسك به ويسعى إلى تحقيقه كل فصائل المقاومة ومكونات الشعب وأطيافه السياسية والدينية المختلفة.. شعار يجمع ولا يفرق.. شعار قد يحقق ما فشلت به ثماني سنوات من المحاولات غير الصادقة لرأب الصدع الفلسطيني وتحقيق المصالحة الوطنية، التي إن لم تتحقق على أرض المعركة الحالية فإنها لن تتحقق أبدا.. وستصبح لعنة أجيال قادمة تلاحق كل من تسبب بها، إلى يوم الدين.

٭ كاتب فلسطيني من أسرة "القدس العربي"

علي الصالح