بينما يتحدث الكل عن الحاجة لاستراتيجية جديدة، دون أن يحدد معالمها وخطوطها العامة والتفصيلية، يقدم الدكتور سلام فياض في توقيت مناسب جداً، رؤية، أو خارطة طريق، تتمتع بقدر عال من الموضوعية وبحس عال من المسؤولية والوطنية الصادقة.
الرؤية التي يقدمها الدكتور فياض، تقدم صاحبها على أنه عميق الالتزام بالوطنية، ومنتج فكر سياسي، في زمن نفتقر فيه إلى الإنتاج الفكري السياسي، البعيد عن الشعاراتية، وتسجيل الأمنيات والمزايدة.
المقالة الطويلة التي نشرها الدكتور فياض، وأعاد نشرها العديد من وسائل الإعلام، وشبكات التواصل الاجتماعي على نحو واسع، لا تحتاج إلى إعادة تلخيص أو تذكير بمضامينها ومفاصلها الرئيسة فالأهم، بما أنها وصلت إلى الجميع، أن تخضع لعملية نقاش جدي من النخب وعلى وجه الخصوص من قبل القيادات السياسية إن كانت هذه مهتمة في البحث عن مخارج وآفاق للوضع القائم.
ورقة الدكتور فياض تفرض أفكارها، في وقت تندلع فيه هبة شعبية، يسميها فياض الانتفاضة وله أسبابه، دخلت أسبوعها الرابع، دون أن تتضح أهدافها، وسقفها السياسي، وهو أمر مفهوم نظراً، لغياب البعد الفصائلي، أو السياسي الرسمي عنها، وهو أمر قد يكون في مصلحة هذه الهبة والقائمين بها وعليها.
في التعاطي مع هذه الهبة، تختلف المواقف والآراء، بين من يريد تصعيدها، وإضفاء الطابع العسكري عليها، وتحميلها مسؤولية التخلص من اتفاقية أوسلو وتبعاتها، وبين من يرى أنها ليست أم المعارك، وأن عسكرة "الانتفاضة"، لا تساعد على استثمارها سياسياً، بالحد الأدنى نحو تغيير الواقع السابق على اندلاعها.
من المناسب أن يفهم الإسرائيلي بأن هذه الهبة التي يقوم بها فئة محدودة من الشباب، هي مجرد بروفة أو طليعة لانتفاضة شاملة ينخرط فيها المجتمع الفلسطيني، وفصائله، ستكون تأثيراتها على دولة إسرائيل بكل مكوّناتها أخطر بكثير مما تعاني منه اليوم.
الهبّة بما أحدثته من تفاعلات داخلية واسعة وعميقة على مختلف المستويات، ابتداء من إسرائيل مروراً بالمحيط العربي والإقليمي إلى الساحة الدولية، هذه الهبّة لم تترك بعد، تأثيراتها المطلوبة على الصعيد الفلسطيني، إن كان على مستوى العلاقات الداخلية أو كان على مستوى الخيارات، والاستراتيجية السياسية.
إن مقياس التأثر الإسرائيلي بتداعيات الهبة الشعبية لا يقاس بمدى استعداد حكومة المستوطنين المتطرفة، لتعديل أو تغيير مخططاتها التوسعية في الأراضي الفلسطينية المحتلة، فهذه مسألة مغلقة، حتى لو افترضنا أن الجهد الدولي سيؤدي إلى عودة المفاوضات بهذا الشكل أو ذاك.
إن تواصل "الانتفاضة" بين الضفة والقدس، والأرض المحتلة منذ العام 1948، وبالوسائل الجارية من شأنه أن يهزّ من الأعماق المجتمع الإسرائيلي، وأن يستفز السياسة الرسمية الإسرائيلية، وغير الرسمية لإظهار طبيعتها العنصرية التمييزية والإقصائية ضد الفلسطينيين وحقوقهم.
وفي ضوء المعطيات ما بدا منها حتى الآن وما ستقدمه الأيام القادمة، فإن رؤية فياض، تفقد مبرراتها، إذا لم يتم التعامل مع مضامينها بشكل جدي خلال المواجهات وفي ظل استمرارها. والحال أنه مثلما هو غير مسموح عسكرة "الانتفاضة"، أو تجييرها فصائلياً، مع تقديرنا لأدوار الفصائل، والجهد العملي الذي تشارك فيه، فإنه من غير المعقول أن يتم قبول مبدأ التهدئة مقابل التهدئة، أو الاستعجال في استثمارها سياسياً.
إن التداعيات التي تفرضها "الانتفاضة" على المجتمعات الإسرائيلية ومخلفات ذلك أهم بألف مرة من أن يتم وقف هذه المجابهة وتجييرها لصالح تحسين المفاوضات وبيئتها.
يصبح المطلوب من القيادات السياسية الرسمية والفصائلية أن تتوخى الحذر فيما يمكن أن تقوم به، أو أن يذهب بها الحماس إلى درجة التقدم نحو تغيير وجهة المواجهات وأساليبها، أو فرض قيادات عليها. فدون التقليل من دور الفصائل ودائماً، فإن دورها اليوم هو دعم وتغذية الانتفاضة وتأمين البعد الشعبي لها، تحت عنوان التحصين والتمكين والإدامة.
وقد يكون من المناسب أن لا يختلف الفلسطينيون حول أهداف هذه "الانتفاضة" إن كان عليها أن تنجز مهمة رحيل الاحتلال أو تحرير كامل الأرض الفلسطينية، أو تخليص المسجد الأقصى، الذي يصر نتنياهو على تسميته جبل الهيكل، كما ورد في تصريح مكتوب له بعد ما قيل عن اتفاق مع الأردن بحضور كيري والرئيس عباس في عمان.
إن المعيار الأهم والاستثمار الأهم في الوضع الداخلي الذي يحقق لهذه "الانتفاضة" الشبابية يتجلى في أمرين: الأول، إنهاء الانقسام الفلسطيني والامتثال للوحدة الميدانية التي تظهر في ساحات المواجهة. والثاني، في الاتفاق على استراتيجية وطنية موحدة تفتح الآفاق على مرحلة جديدة كبديل عن استراتيجيات المرحلة السابقة التي كانت أحد الأسباب الأساسية في اندلاع هذه "الانتفاضة".
في الخلاصة ينبغي أن يترك الشباب ليقرروا ميدانياً، آليات عمل الانتفاضة وأهدافها وآفاقها، وان تنشغل القيادات أكثر في ترتيب البيت الفلسطيني عبر كافة العناوين التي سجلتها مراراً اتفاقيات المصالحة، ولم يتحقق منها سوى حكومة توافق وطني ليست قادرة على الإقلاع بالمهمات التي أنيطت بها.
طلال عوكل
26 تشرين الأول 2015