بينما كانت حديقة البيت الأبيض تشهد توقيع اتفاق اوسلو، كان أطفال فلسطين ينثرون أغصان الزيتون على آليات الاحتلال، مشهد الأطفال هذا لم يرق يومها إلى الكثير منا ممن عاشوا عذابات الاحتلال وبطشه، ليس بالأمر الهين أن يضع طفل فلسطيني غصن الزيتون على جيب لقوات حرس الحدود الذي لطالما نكل أفراده بابناء شعبنا، كان الكثير منهم يتلذذ في ممارسة ساديته علينا، وقد يكون من بين افراد دورية الاحتلال تلك من لم يجف دمنا على يديه بعد، رغم الألم حمل سلوك الأطفال يومها رسالة واضحة المعاني بأن شعبنا يتوق إلى السلام ويحلم بأن يطوي صفحات طويلة من المعاناة، يحلم بأن ينقله ذلك الحدث إلى الحياة المدنية التي تنشد التطور والرق وتختفي بين أبجدياتها نوازع الكراهية.
رسالة الأطفال تلك وإن جاءت بمشهد مغاير، إلا أنها حملت ذات المضمون الذي أطلقه الرئيس الفلسطيني "ياسر عرفات" من على منصة الأمم المتحدة يوم ناشد العالم بألا يدعوا غصن الزيتون يسقط من يده، الواضح أن قيادة دولة الاحتلال قرأت الرسالة بطريقة خاطئة، بذات الطريقة التي تقرأ بها حتى يومنا هذا الفلسفة التي يبني عليها الرئيس الفلسطيني "ابو مازن" سياسته، قيادة الاحتلال تعلم قبل غيرها بأنه لن يأت قائداً للشعب الفلسطيني يؤمن حتى النخاع بأن حل الصراع يأتي فقط عبر المفاوضات كما هو الحال اليوم، سيما وأن الرئيس لم يتردد يوماً بالمطالبة بسلمية المقاومة، حتى اثناء أكبر موجات الغضب الفلسطيني الناجمة عن مجازر الاحتلال لم يتخل الرئيس عن سياسته رغم الانتقادات الفلسطينية الواسعة التي وجهت له.
بات من الواضح أن الجيل الذي ولد على أعتاب اتفاقية اوسلو، وأولئك الأطفال الذين حملوا أغصان الزيتون يوم توقيع الاتفاقية، لم يعد يؤمن بأن عليه أن يتسمر في مكانه حاملاً بيده غصن الزيتون، بعد عقدين من المعاناة والعض على الجراح لم يتحرك العالم لمساعدته كي لا يسقط غصن الزيتون من يده، وفي الوقت ذاته لم تدخر حكومات الاحتلال المتعاقبة اسلوباً تودع من خلاله السلام إلى مثواه الأخير إلا ومارسته.
الطامة الكبرى أن قيادة الاحتلال بين الفينة والأخرى تتهم السلطة الفلسطينية بالتحريض، وتسارع في الشكوى للعالم من تطرف المجتمع الفلسطيني، والحقيقة التي باتت ساطعة ولا يمكن لحكومة الاحتلال حجبها، أن المجتمع الإسرائيلي على مدار العقدين السابقين اتجه نحو التطرف بشكل غير مسبوق، بل أن التطرف لا يمسك فقط بناصية حكومة الإحتلال فقط بل بمفردات الحياة داخل المجتمع الاسرائيلي، اليس في غياب قوى السلام داخل المجتمع الإسرائيلي ما ينبيء بحجم التطرف الذي بات يسيطر عليه؟، لم نسمع أصواتاً داخل المجتمع الإسرائيلي تندد بجرائم حكومتهم بحق الشعب الفلسطيني كما فعلت بعد مجزرة صبرا وشاتيلا، ألم يعد من الواضح للعيان من الذي يشرف على التحريض بشكل ممنهج واستطاع من خلاله أن يزرع التطرف في اركان مجتمعه؟، ألا تشكل نتائج الانتخابات الاسرائيلية مقياساً على حجم التطرف الذي يضرب بأطنابه داخل المجتمع الإسرائيلي.
كيف يمكن لعاقل أن يطالب الشعب الفلسطيني بأن يجنح إلى السلام وأن يلوح دوماً بغصن الزيتون، وهو يعاني ليلاً ونهاراً من تطرف اليمين الإسرائيلي الآخذ بالاتساع؟، الحقيقة التي لا مفر منها أنه لم يعد هناك شريكاً اسرائيلياً للسلام، وأن حجم التطرف داخل المجتمع الإسرائيلي لم يترك مساحة ولو ضيقة يمكن للسلام أن ينبت فيها.
د. أسامه الفرا