وعد بلفور… بريطانيا سبب مآسينا

بقلم: فايز رشيد

في الثاني أكتوبر كل عام تتجدد ذكرى وعد بلفور، الذي جرى إطلاقه في عام 1917. ثمانية وتسعون عاماً مرّت على هذا الوعد المشؤوم من وزير خارجية بريطانيا العظمى للحركة الصهيونية، الذي جعل من فلسطين مكاناً لإقامة الوطن القومي لليهود، ظلما وزورا وبهتانا، بما يمثله ذلك من انصياع وتآمر بريطاني مع قرار المؤتمر الصهيوني الأول، الذي انعقد في مدينة بازل السويسرية عام 1897، والذي جعل من فلسطين أرضاً للميعاد.
لا أريد في مقالتي هذه تكرار كلام روتيني في ذكرى وعد بلفور. قبل هذا الوعد بزمن طويل جرى الحديث أوروبيا عن ضرورة إنشاء وطن قومي لليهود في فلسطين، كخيار من عدة خيارات في دول أخرى: صحراء سيناء المصرية وفي العريش تحديدا (اقتراح رئيس الوزراء البريطاني تشمبرلن)، لكن "لجنة الخبراء الصهيونيين" رفضته. كان أحد الخيارات: أوغندا (اقترحه بلفور نفسه)، رفض المؤتمر الصهيوني السادس هذا المقترح، لأن أوغندا لن تشكل مصدر جاذبية لهجرة اليهود، ثم كانت الخيارات في: كندا، الأرجنتين، جنوب أفريقيا وغيرها، وكلها جوبهت بالرفض الصهيوني لها.. هذا يعني: أكذوبة الارتباط اليهودي بفلسطين.
قبل بلفور، كان نابليون بونابارت أول من اقترح إقامة دولة (حكما ذاتيا) لليهود في فلسطين، تحت الولاية الفرنسية لها. كان يريد استخدام اليهود لخدمة المصالح الفرنسية في المنطقة. في عام 1862 نشر الزعيم الصهيوني موشيه هيس كتابه "روما والقدس" وفيه تحدث عن رعاية فرنسية لدولة اليهود في فلسطين، هذا دليل على صحة ما ذهبنا إليه. في عام 1830 اتفق اللورد بالمرستون وزير الخارجية البريطاني مع اللورد شافستري على تكثيف الهجرة اليهودية إلى فلسطين، لخدمة المصالح البريطانية في المنطقة. في عام 1838 تم افتتاح أول قنصلية بريطانية في القدس: لخدمة المصالح البريطانية ولتكثيف هجرة اليهود. ساعد القنصل ديكسون منذ بداية عام 1839 اليهود في شراء الأراضي في فلسطين وإقامة المستعمرات، وقد كان عددهم آنذاك 10 آلاف. في عام 1865 أنشأ الصهاينة البريطانيون "صندوق استكشاف فلسطين" كان يقدم مساعدات مادية لكل من يريد الهجرة إلى فلسطين من اليهود. بعد ذلك توالت موجات الهجرة، كان أضخمها فترتين: الهجرة الأولى من عام 1882 ـ 1904. الثانية من عام 1914 ـ 1915 .
بريطانيا كما كل الدول الاستعمارية هدفت إلى: استعمال اليهود ودولتهم الموعودة لخدمة مصالحها في المنطقة العربية، والتخلص من موجات الهجرة اليهودية إليها من دول أوروبا الشرقية، (في بريطانيا تشكلت اللجنة الملكية للحد من هجرة الغرباء ـ يقصدون: هجرة اليهود، واستدعي هرتزل للإدلاء بشهادته أمام اللجنة. قدمت الحكومة مشروع قرار لمجلس العموم في عام 1904 لوقف الهجرة، واضطرت إلى سحبه تحت ضغوط المعارضة، ثم عادت وقدمته مرة أخرى في عام 1905 ونجح )، كما هدفت بريطانيا إلى تأمين خطوط مواصلاتها إلى الهند.
قرار الحركة الصهيونية في مؤتمر بازل عام 1897، وقرار وزير الخارجية البريطاني بلفور في ما بعد عام 1917، مثّلا ولا يزالان التقاء المصالح الاستعمارية والصهيونية، ومخططاتهما البعيدة المدى للوطن العربي والقاضية بإقامة دولة غريبة عن المنطقة وعدوة لسكانها في الجزء الفاصل بين دول الوطن العربي في آسيا والأخرى في أفريقيا، هذه الدولة ستكون رأس جسرٍ للمصالح الاستعمارية في الشرق الأوسط، وحربة في ممارسة العدوان على دوله، وإبقاء شعوب المنطقة متأخرة، ومنع قيام أي مظاهر وحدوية بين دوله، لأن وحدتها تجعل منها، قوة مؤثرة على الساحة الدولية، "فهي شعب واحد تتوفر له وحدة التاريخ والدين واللسان". تم رسم هذا المخطط في مؤتمر كامبل- بنرمان الذي امتدت جلساته المتباعدة من عام 1905 ـ عام 1907. بين الدول الاستعمارية، بريطانيا، فرنسا، بلجيكا، هولندا، إسبانيا وإيطاليا.
إن الصهيونية كمفهوم ديني، جرت مزاولتها من قبل المتصوفين اليهود على مر الأجيال، نتيجة لارتباطها بالأمل الكبير في اليهودية، القائم على عودة المسيح في نهاية الزمان، وكانت هذه تعرف بـ"الصهيونية الدينية". عملت الحركة الصهيونية كجماعة سياسية منذ إنشائها كصهيونية سياسية مع وجود هرتزل، الذي وبالمعنى العملي أوجد النظرية ومنهجها في كتابه "الدولة اليهودية" في عام 1896 وشرع في تطبيقها في المؤتمر الصهيوني الأول، إذ بدأت في تعريف نفسها كـ"عقيدة سياسية" و"عقيدة قومية"، ثم بدأ ظهور مصطلحات جديدة عن "الشعب اليهودي"، و"الأمة اليهودية". إن إضفاء الطابع السياسي والقومي على الصهيونية لم يكن بمعزل عن تطورات أوروبا آنذاك، وانتقالها من مرحلة الإقطاع إلى الرأسمالية، وبدء ظهور مرحلة القوميات، لذا فما دام قد جرى طرح اليهودية كقومية، كان لا بد من وطن قومي لها، وما دامت لم تمتلك وطنا عبر التاريخ، كما أن لا وطن لها، فبالضرورة من أجل ذلك لا بد أن تحتل وطنا وتقتلع شعبه من أرضه، وبذلك تحولت فعليا إلى "عقيدة استعمارية".
مع بداية الانتداب (فعليا الاحتلال) البريطاني على فلسطين، ودخول القوات البريطانية إليها، بدأت مرحلة جديدة من التعاون بين الجانبين في تهجير أعداد أكبر من اليهود إلى فلسطين، إنشاء المستعمرات، مساعدة المنظمات الإرهابية الصهيونية على شن العدوان واقتراف المذابح بحق الفلسطينيين والعرب، والتضييق الشديد عليهم. كما مصادرة الأراضي الفلسطينية وتمليكها للمستوطنين الجدد. كذلك تم إصدار الأحكام القضائية القاسية على الفلسطينيين والعرب المقاومين. تشجيع الهجرة بأساليب ووسائل مختلفة للفلسطينيين من وطنهم، وفي معظم الحالات وقبيل إنشاء الكيان الصهيوني، إجبارهم بالقوة على الترحيل منها. جرت مساعدة المنظمات الإرهابية الصهيونية على تشكيل الجيش الإسرائيلي، ودعما لهذا الجيش، تركت بريطانيا مختلف أنواع أسلحتها وطائراتها له قبيل رحيل قواتها من فلسطين. المساعدة في إنشاء إسرائيل. كل هذه الأهداف والتسهيلات موثقة بوثائق كثيرة. كما هما معروفتان الاتفاقيتان اللتان عقدتهما الحركة الصهيونية مع النازية، ونظرا لأن هذه مقالة صحافية وليست بحثا: لا يتسع المجال لإيراد المزيد من الحقائق والوثائق، وهي معروفة لكل من يهتم بالقضية الفلسطينية، وحقيقة إسرائيل والصهيونية.
أردنا من هذه المقالة، إلقاء بعض الضوء التاريخي على إرهاصات الأحداث ما قبل وعد بلفور. كما للرد على التفسيرات الخاطئة لبعض الباحثين والمؤرخين وطروحاتهم، من نمط: أن بريطانيا ساعدت الحركة الصهيونية لأن وايزمان (الكيميائي) ساعد بريطانيا في الحرب العالمية الثانية، باختراع غاز حارق وهو أحد مشتقات الآسيتون. كما التفسير، مثل أن بلفور كان يريد تحقيق الوعد الإلهي "بعودة المسيح"، ويتكئون على كتابه في قراءة تنقصها الدقة، بعنوان "العقيدة والإنسانية". لا ننكر أن بلفور من التيار الصهيو ـ مسيحي في المسيحية (وهناك كتب كثيرة تبحث في هذا التيار وتفاصيله، خاصة في أمريكا وكندا). الدور البريطاني في مساعدة اليهود على اغتصاب فلسطين، وإنشاء إسرائيل، نبعا من التقاء مصالح مشتركة مع الحركة الصهيونية، وبالتالي كان وعد بلفور المشؤوم ترجمة لتلك الأهداف (للعلم هناك أبحاث كثيرة تؤكد على كره بلفور الشديد لليهود كما كان العديدون من الساسة البريطانيين). مع بروز الولايات المتحدة كقوة كبرى بعد الحرب العالمية الثانية، مارست وما تزال دورها الرئيسي في مساندة إسرائيل (كما بريطانيا)، وصولا إلى اعتبار إسرائيل ولاية داخلية أمريكية. إنه أيضا التقاء مصالح مشتركة للحليفتين، وأهداف مشتركة في المنطقة… نعيش حاليا أحد فصولها.
منذ ذلك الزمن وحتى الآن 2015 لم يتوقف التآمر الاسرائيلي بمساعدة بريطانيا، وفي ما بعد أيضا الولايات المتحدة وفرنسا ودول أخرى غربية كثيرة، على شعبنا وعلى أمتنا. كل الذي حصل بعد ما يقارب السبعة عقود على إنشاء الكيان، أن اسرائيل ازدادت عدوانية وصلفا وعنصرية عاما وراء عام. من جانب ثان: ازداد التآمر الاستعماري على الوطن العربي، وهو ما يؤكد حقيقة المؤامرة التي صيغت خيوطها في أوائل القرن الزمني الماضي. الآن نشهد فصولا جديدة من المؤامرة عنوانها: تفتيت الدول القطرية العربية، وتحويلها إلى كيانات هزيلة ومتناحرة ومتحاربة، حتى الآن لم نستفد من دروس الماضي: العرب ما زالوا مفككين، والقطرية تتمازج مع العصبوية لتشكل ما يشبه الظاهرة الأبرز في العالم العربي، على حساب شعارات الوحدة والتكامل والتنسيق البيني العربي. ألا تتفقون ..أن بريطانيا كانت سبب مآسينا؟
كاتب فلسطيني

د. فايز رشيد