القدس في هذه الأيام عروس سجينة، ترقد في قبوها وترقب ثقبًا في السماء يأخذها إلى عشاقها الأنبياء، مَن عشّموها بالبخور والحناء والذبائح، وفي ليلة فكّت فيها ضفائرها، هجرها العشاق على مراكب النار، وصعدوا إلى السماء تاركيها عرضة لسفاح الجن وفسق الأقارب.
القدس في هذه الأماسي دامية، تبكي عذاراها وتفتش في أحضان "الجلجثة"عن الحقيقة، وفي بركة السلطان عن بقايا وعد وضمير. فيها، في بيتي الذي يصير من يوم إلى يوم أبرد من خريف، أجلس على كنبتي، التي صارت صديقتي بعدما دست رقبة الخمسين وصاهرت الكسل، مادًا ساقين شاخا قبل اشتعال اللوز في رأسي، وملقيًا رقبتي باتجاه السقف، ولا أتابع لعبة ريال مدريد مع باريس سان جيرمان. فتحت عيني، وكنت أستعيد ببطء وبنصف وعي، رحلتي في هذا النهار الطويل، على صوت يحثني على مشاهدة فضائية "العودة" فعلى شاشتها يحلق ويمدح الدرويش بظلّه العالي.
بدأت صباحي وكأنني على ميعاد مع قلبي، أوقفت سيّارتي على عجل وقفزت منها متّجهًا نحو البوابة الرئيسية لسجن الرملة الكبير. كان النهار يتيمًا، غابت شمسه فجأةً، وغيمة سوداء، أكبر من نصف ليل، غطّت بحرًا من الليلك رافقني وأنا أنحدر من جبال القدس المحتفية بطلائع البرد الأولى، نحو المدينة التي تبكي سليمانَها وعزًا بيع في أسواق المكر الكبرى ودواوين الجهل القشيب. أتسلّح بقلمي ودفتر ملاحظاتي الذي لا يفارقني في زياراتي للأسرى، وأتأكد أنني لا أحمل معدنًا أو أي محظورات، قد تعيق دخولي إلى داخل السجن. أراجع أسماء من طلبت زيارتهم، وأستجمع طاقاتي لأوزعها بدايةً في مواجهة ما سيعترضني من "مطمطة" متعمّدة من السجّانين، وما سيتبقّى أفرقّه حبّات أمل على من يعيشون في جوف الجرح وعلى رذاذ الدمع.
كنت أخطو واثقًا وغير مبال لنظرات المارة، ومعظمهم من السجّانين والسجّانات، التي كانت تتساقط نحو الأرض ونحوي، بعضها فاحصًا ومستأمنًا وأخرى رسائل حقد وكراهية، وفجأة انحلّ عقد السماء وبكى سحابها كطفل جائع فبللنا وحوّلنا في لحظة إلى سواسية في الهريبة كأمهر العدائين.
في المدخل يستقبلني أسد ببسمة وترحاب ويطمئن أنني جئتهم بعد تنسيق مع المسؤولين، كما تفرض اللوائح والقوانين، ويعدني بتسريع دخولي فيوجهني كي أنهي عمليات الفحص الأمني.
وراء شاشة الفحص يجلس سولجينتسين، ينظر إليّ بما يشبه العتب، أو ربما بشعور عدائي آخر لم ترشدني إليه شفته السفلى التي كانت حمراء مقلوبة ومعضوضة من شفته العليا، بدا مأزومًا، وكأنه لم يسمعني ألقي عليه تحية الصباح وعلى شفا البكاء أو الانفجار، هكذا وشت حركات جســـــمه: يلبس، رغم البرد، لباسه الصيفي، صدره مدفوع إلى الأمام كصدر ستيفان سيغال، قبضة يده اليــــمنى مضمومة بقسوة، وكأنه اصطاد هسهسة، ويتركــــها ملقاة أمامه على الطاولة، وشرايين ذراعيه منفوخة كحاقن ووجهه كأنه من شمع. أخلع ساعة يدي وحزامي، وأضع كل ما في جيوبي ودفتري وقلمي في حاوية صغيرة وأدخلها في جهاز الفحص المغناطيسي، وأستجمع أنفاسي وأدعو الحظ وأصلي أن لا "أزمر" . أدخل تحت بوابة تشبه قوس نصر سخيف، وما أن دست بقدمي عتبتها، وفي أقل من ثانية، بدأت جنباتها تعزف مارش الجنازة وتصيح إزززززز، تراجعت كمقروص وقبل أن يستكمل "الرامبو" قفزته صارخًا قف، ارجع، اخلع حذاءك.
تنتهي طقوس الانتقال من محطة انتظار إلى محطة بإدخالي إلى قاعة الزيارة، يتأكد السجان من قائمة الأسماء المطلوبة ويعدني بأن لا أنتظر طويلًا.
أجلس وحيدًا، إلا من رفقة حارس يحاول أن يمرّن ما حفظه من عربية في بلاده، قبل أن يصير واحدًا من "مُنقذي" عملية "شلومو" وهو الاسم الذي أطلق على عملية انقاذ يهود إثيوبيا. أتحرش فيه مستفسرًا عن شعوره وهو يرى زملاءه السجانين يفرغون غضبهم العنصري على ذلك العامل الإريتري في بئر السبع، لكنّه يهرب إلى بطن الرغيف ويختبئ في الرغوة والزبد.
لم يصدُق السجان بوعده، فبعد ساعة من الانتظار المقيت أحضر لي ثلاثة من أصل خمسة أسرى طلبت زيارتهم ويمكثون في عيادة سجن الرملة بشكل دائم. يجلس راتب، وهو الأسير السليم والقائم على رعاية زملائه العشرين قبالتي خلف زجاج سميك، ويخبرني من خلال الهاتف، أن حالة الأسير سامي أبو دياك لا تسمح بأن ينتقل لمقابلتي، لأنه يشعر بأوجاع كبيرة ودوخة وضعف شديد، على أثر عملية استئصال ورم من معدته، أدّى إهمال علاجه إلى ترد خطير ما زال يهدد حياته، كما أعلمني راتب أن الأسير الشبل جلال الشراونه لن يستطيع الحضور للزيارة، لأنه مربوط إلى جهاز يضخ في وريده جرعة دواء تنتهي بعد ست ساعات.
أسجل ما ينقله من أخبار عن أوضاع الأسرى، فناهض الأقرع بحاجة إلى زرع ســــاقين بعد أن بترا على أقساط في السنوات الماضية ، وخــــالد الشاويش بحاجة إلى سلسلة عمليات تمنع تدهور حالته وهو المقعد منذ سنوات ويعيش على كرسيه المتحرك ، تمامًا كرفيقه بالشقاء، منصور موقدة الذي يعيش على كرسيه المتحرك حاملًا معدة اصطناعية وبقايا أمل.
بجانبه يجلس إياس الرفاعي، شاب تعلو وجهه بسمة بريئة، لتزيل شحوبًا مقلقًا على جبينه ووهنًا بارزًا. يقص عليّ حكايته المريرة، التي لا تختلف عن حكايات بحّارة نسيتهم مرافئهم وتاهوا. فحظ إياس تعثر عندما تبين لديه ورم يستوجب الاستئصال. أجريت له عملية ضخمة في مستشفى سوروكا، وقبل أن يستعيد عافيته ويتأهل للرجوع، أعادوه إلى عيادة سجن الرملة، حيث أخذت حالته تسوء، فنقل إلى المستشفى بسيارة بوسطة عادية، وهو مكبل اليدين والرجلين. في المستشفى أجريت له على عجلة فحوصات بعدها أعيد مباشرة للعيادة بالطريق والطريقة نفسيهما، وتكررت هذه الرحلة مرّة أخرى، وذاق إياس المذلة والقهر والمعاناة، مرّة تلو مرّة، لكنّه، ها هو أمامي يحدّثني كما تحدث الطير الصباح ويبتسم في وجهي كما يبتسم النرجس لعاشقين نشوانين على ضفافه.
أسمع منه ومن زملائه قصصًا واستذكر تلك القوافل من راحلين وسابقين، ما زالت وجوههم مطبوعة على تلك الشبابيك، ولم تقو عليها يد السجان ولا قمعه، فهي باقية، تماما كحجارة المعابد في الرملة وذلك الدمع الذي انهمر في الصباح من السحاب الذي بكى وحمّلني وعود الملائكة للصابرين والشرفاء.
اقفز من على كنبتي إلى شاشة العودة، محمود الغضب يقف كالحق ويزأر: "واسحب ظلالك عن بساط الحاكم العربي حتى لا يعلقها وسامًا" وأمامه قاعة تفيض قيادة وجنودًا وحماسة ونصرًا مؤجلًا، وأمامي راتب ورفاقه ومحمود يصرخ: "فأنكروك لأنهم لا يعرفون سوى الخطابة والفرار/ هم يسرقون الآن جلدك/ فاحذر ملامحهم.. وغمدك/ كم كنت وحدك يا ابن أمي".
وأنا أخزن الصدى، لأنثره ورودًا لمن يستحقون المديح وهم يعيشون هناك في ظلّهم العالي.
٭ كاتب فلسطيني
جواد بولس