واضح بأن مرحلة أوسلو قد حملت كوارث على الشعب والقضية والفصائل والأحزاب،وقد لمسنا ذلك من خلال التراجع الكبير في دور القوى والأحزاب في التوعية والتثقيف لعناصرها ومناصريها عبر العمل والنشاط الحزبي والتنظيمي الداخلي،فرغم ان العنصر والعضو أصبح يستطيع الحصول على المعلومة او الموقف أو البيان أو التصريح الصحفي من وسائل الإعلام بأشكالها المختلفة مقروء ومرئي ومسموع وكذلك مواقع التواصل الإجتماعي،لكن هذا لا يكسب وعياً عميقاً وقدرة على التحليل وطرح الموقف بعمق وإتزان من قضية معينة،فهذا يمكن الشخص الحزبي وغير حزبي من الحصول على حصيلة معرفية ومعلوماتية تحتاج الى الكثير من الصقل والتطوير والإغناء،وبما يمكن من خلق إنسان واع قادر على رؤية الأمور والمسائل والقضايا بشكل اوضح واكثر عمقاً ونضجاً،وكذلك الوعي والثقافة الحزبية يفترض أن تستكشف قدرات وملاكات العضو،لكي تفجرها على شكل مبادرات وإبداعات في مختلف جوانب العمل الحزبي التنظيمي، السياسي،الوطني،الإعلامي،التعبوي،التثقيفي،الدعوي والتحريضي ، خلق كادرات وقيادات في مختلف ميادين العمل تمكن من نشر فكر الحزب ومواقفه وبرنامجه واهدافه بين الجماهير وتثقيفها بذلك.
ما قبل مرحلة اوسلو كانت عمليات التثقيف والتوعيه وتربية الملاكات والكادرات وخلق وصناعة القادة يجري العمل بها من قبل القوى والأحزاب الفلسطينية،ولكن مع مجيء اوسلو أصبحت ماكنة الضخ والتثقيف والتوعية في القوى والأحزاب معطوبة والعطب أصاب الرأس القيادي،وهذه العملية أصبح يغلب عليها الطابع الشلاكني،ومعظم عملها في إستقطاب عناصر جديده ينصب على الإقتيات على التاريخ القديم وإرث قادتها التاريخيين،فالجميع يلاحظ غياب العملية التثقيفية والتوعوية في القوى والأحزاب من خلال ما تمتلكه عناصرها وكادراتها من قدرات ثقافية وتنظيمية وسياسية متدنية،وكذلك قلة الإصدارات وبرامج التوعية في مختلف المجالات والميادين وغياب عمليات التعبأة والتحصين الحزبي التنظيمي والسياسي والفكري،وهناك غياب شبه شامل للأنشطة المتعلقة بعمل ندوات ومحاضرات ولقاءات سياسية وثقافية وتوعوية،ولم تعد الأحزاب والقوى تلعب دوراً بارزا في صقل وتربية العنصر،فليس لديها ما تثقف به ويجري الاعتماد على مواقع التواصل الاجتماعي او وسائل الاعلام المختلفة،ولذلك قليل ما تجد منظرين او دعاة ومحرضين حزبين قاردين على طرح مواقف قواهم وأحزابهم بشكل قوي وقادرعلى استقطاب الجماهير أو التأثير فيها وخلق قناعات عندها.
كل التطورات والتغيرات العاصفة التي تحدث في الواقع الفلسطيني والمحيط العربي والإقليمي والدولي،يجب ان يكون هناك دوائر ولجان تصهر وتصقل وعي الأعضاء والجماهير بهذه التطورات والمتغيرات والمواقف والرؤى،وكذلك إمتلاك البرامج المستجيبة لإحتياجات الشباب والجماهير والقادرة على توظيف قدراتها وطاقاتها ومفسحة المجال لها من اجل التقدم في سلمها القيادي،والتقرير في سياسة الحزب او التنظيم.
حتى يكون التنيظم او الحزب عامل جذب للأفراد لا طرد عليه ان يكسب العضو معارف ومهارات ووعي جديد،وان يكون التنظيم قادراً على ان يستوعب طاقات وقدرات الشباب ويستثمرها في جوانب ونواحي ايجابية تشعرهم بقيمتهم ومكانتهم،وان يفسح المكان والطريق لهم لكي يكونوا جزء من القيادة والقرار،لا مجرد ان يكونوا وقوداً وحطباً لمن يحشرون أنفسهم من قيادات الحزب او التنظيم في خانات ومواقع تعتبر حكراً عليهم،أو لا يريدون دفع إستحقاق مثل هذه المواقع .
الهبات الشعبية المتلاحقة التي إنطلقت من مدينة القدس في 2/7/2015 ،بسب إختطاف وتعذيب وحرق الشهيد الفتى ابو خضير حياً، والمتواصلة حتى الهبة الأخيرة التي انطلقت في 13/9/2015،هي هبات عفوية تحمل طابعاً فردياً،وينقصها الوعي الذي يمكن من ديمومتها واستمرارها،فغياب الوعي عن تلك الهبات،لا يجعل جذوتها مشتعلة،ونحن أمام هبات متلاحقة تتسع مداياتها ومفاعيلها وتحقق إنجازات،ولكن هذه الإنجازات بحاجة ليس فقط الى مراكمة،بل ما نحتاجة في سياق الفعل الإنتفاضي الذي ينضج ويفرز قياداته،ان يكون هناك هدف واضح ومحدد لهذه الهبات،كل هبة يتحدد لها هدف مرحلي يجري صوغه بشكل سياسي بما يخدم ويصب في الهدف الإستراتيجي،وكذلك يجب ان يكون لها شعار ناظم وقيادة تاطر وتنظم وإن كان ليس بالمعنى التنظيمي التقليدي،ولكن بدون قيادة وتنظيم يستحيل أن تتقدم تلك الهبات على صعيد تحقيق هدفها الإستراتيجي،وبذلك تصبح هذه هبات يأس وليس امل.
الخليط المحرك لتلك الهبات من الشباب المرتبطين بعلاقة ما بالتنظيمات والأحزاب او غير منتمين،تحركهم دوافع وطنية ودرجة عالية من الإنتماء للوطن،وهي تجد في كل إجراءات وممارسات الإحتلال وتمظهراته الأمنية والإقتصادية والعسكرية والإستيطان والمترافق بالكثير من القمع والتنكيل وإمتهان الكرامة والمس بالمقدسات وخاصة المسجد الأقصى عوامل تدفع نحو التمرد والثورة على الإحتلال،وأيضاً انسداد الأفق السياسي والسقف السياسي الهابط للسلطة وإصرارها على التمسك بنهج وخيار المفاوضات الذي لم يتحقق من خلاله أي إنجاز جدي وحقيقي،سوى انه يستغل من قبل الإحتلال لتقطيع الوقت وتغير الوقائع والحقائق على الأرض بالإستيطان والتهويد،ولذلك كانت ثورتهم وغضبهم على المحتل بشكل رئيسي وعلى السلطة ومعها الفصائل.
اذا لم يجري إعادة الإعتبار للوعي والتوعية والتثقيف في صفوف القوى والأحزاب كحلقة مركزية،وليس فقط للأعضاء الجدد او عناصر وكادرات التنظيم،بل أول من هو يجب تثقيفه وتوعيته هو القيادات،فعندما تجد قيادات حزبية وتنظيمية في عصر العولمة وثورة الإنترنت والمعلومات عاجزة عن استخدام الكمبيوتر او وسائل التواصل الإجتماعي،فهذا بحد ذاته كارثة،كيف توعي وهي من يحتاج التوعية والتثقيف اولاً ؟؟.
التكلس والجمود والنمطية وعدم القدرة على مواكبة التطورات والمبادرة وقراءة الواقع بشكل علمي وصحيح،كلها عوامل محبطة وتؤثر في وعي وثقافة العناصر الحزبية والشباب غير المحزبين.
نحن امام حالة غير مسبوقة من "إخصاء" الوعي وإعتباره ليس مهماً او ضرورياً،رغم ان احد مرتكزات المشروع الصهيوني قائمة على " تقزيم" و"كي" الوعي الفلسطيني من خلال مشاريع الأسرلة المختلفة.
اذا لم تعيد الأحزاب والتنظيمات والقوى السياسية الإعتبار لهذه الحلقة المهمة جداً فإن وحدتها التنظيمية والسياسية ستكون في خطر،ولن تكون هناك إرادة جمعية في التنظيم وتضيع و"تميع" الهوية الفكرية،وتصبح الأحزاب والتنظيمات مجرد حاله هلامية هشة.
وختاماً نقول في هذا الإطار ما قاله الكاتب والروائي الراحل الكبير يوسف ادريس حول الثقافة ودورها في حياة البشر والشعوب والمناضلين عن كتب الشهيد المبدع غسان كنفاني" إقرؤا كتب غسان مرتين،مرة لتعرفوا انكم موتى بلا قبور،قبور الثقافة بلا ثورة والثورة بلا ثقافة".
بقلم/ راسم عبيدات