على عكس أكثر من لقاء سابق جمع كلاً من الرئيس الأميركي باراك أوباما، ورئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو، في واشنطن، لم يكن أحد يتوقع أن يكون اللقاء الأخير، الذي جرى بينهما، أمس، عاصفاً، ليس لأن الرجلين على وفاق سياسي، بل لأن أوباما، وهو يدخل عامه الأخير في البيت الأبيض، بات أقل حماساً، بل أقل اهتماماً بكثير بملفات السياسة الدولية، وفي المقدم منها ما اعتاد المراقبون على وصفه، بملف الشرق الأوسط، والمقصود به ملف الصراع الفلسطيني - الإسرائيلي.
قبل أيام أعلنت الخارجية الأميركية أنها لا تتوقع أن يحدث اختراق خلال العام القادم، أي العام الأخير لأوباما، ولربما للديمقراطيين في البيت الأبيض، ليس فيما يتعلق بالحل السياسي، بل في عملية التفاوض ذاتها، هذا رغم التدخل الأميركي، بشخص جون كيري وزير الخارجية شخصياً، بعد اندلاع المواجهة في القدس والخليل وسائر المدن الفلسطينية المحتلة منذ نحو ستة أسابيع، بحيث «اكتفى» كيري بالتوصل إلى تعهد إسرائيلي شفهي بالإبقاء على ما سمي بـ «ستاتيكو» المسجد الأقصى، وبحل الكاميرات بين الأردن وإسرائيل.
أما عشية زيارة رئيس الحكومة الإسرائيلية لواشنطن، فقد سربت كالعادة الأوساط الأميركية تساؤلات نسبتها إلى مسؤولين أميركيين، سيقوم بطرحها الرئيس أوباما على رئيس الحكومة الإسرائيلية، وتتعلق بما يفكر به من حلول، بعد أن دفع الأمور باتجاه استحالة تطبيق حل الدولتين، وبفتح الآفاق لحل الدولة الواحدة!
من الواضح أن نتنياهو ذاهب للبيت الأبيض، دون أن يتوقع أية ضغوط من أي نوع، بل إنه يذهب ليحصل على «الثمن الأمني» للاتفاق الذي أصر على التوصل إليه أوباما حول الملف الإيراني، حيث تشير التقديرات إلى أن واشنطن ستمنح إسرائيل دعماً عسكرياً يقدر بعشرات مليارات الدولارات، وأن من السهل عليه أن يجيب على تساؤلات الأميركيين فيما يتعلق بالملف الفلسطيني - الإسرائيلي بالقول: إن على واشنطن أن تستمر في دعم إسرائيل سياسياً في كل سياساتها تجاه هذا الملف، بما في ذلك تغطية جرائمها التي ترتكبها، خاصة عمليات القتل الميداني التي تمارسها بحق الشباب الفلسطيني المناهض للاحتلال.
وعلى الأغلب سيحاول نتنياهو أن يهدئ من روع حلفائه وأصدقائه الأميركيين، الذين باتوا يشعرون تباعاً بأن الأمور في الشرق الأوسط بدأت تفلت من بين أيديهم، وأن المخاطر الناجمة عن فتح مجتمعات ودول المنطقة قد تهدد دولاً أخرى، مثل أوروبا بهذا القدر أو ذاك، لكنها لا تهدد الولايات المتحدة، وأن إسرائيل ما زالت ترى أن هذه الفوضى ما زالت تصب في مصلحتها، من حيث أنها تذهب إلى إقامة الدول في المنطقة على الأساس المذهبي والطائفي والديني، بما يبرر سياستها في التحول علناً وصراحة إلى دولة عنصرية!
يمكن القول إذن: إن رئيس الحكومة الإسرائيلية، لا يرى أية مشكلة تهدد تحالفه مع واشنطن، على خلفية ما يحدث من مواجهة في الأراضي الفلسطينية المحتلة، على الصعيد الميداني، مع انسداد ليس أفق المفاوضات السياسية مع الفلسطينيين وحسب، بل وانسداد أفق الحل السياسي أيضاً.
وربما كان الرجل ما زال يراهن على الحالة الإقليمية التي تشهد تفكك العديد من الدول العربية، لتحل مكانها «دويلات» طائفية، وإن الاهتمام الإقليمي ومن ثم الدولي بالدولة الفلسطينية كحل لصراع ظل عقوداً يمثل فتيل التوتر في المنطقة، سيتراجع ومن ثم سيتلاشى، بما يفرض تالياً، فعلاً، موت فكرة حل الدولتين التي أخذتها واشنطن على عاتقها منذ عدة أعوام.
وعلى الأغلب لن يبوح رئيس الحكومة الإسرائيلية بما يفكر فيه صراحة، ومن أنه لا يسعى للحل بقدر ما يسعى إلى مزيد من التوتر وإلى استمرار الحرب، وهو الذي كان قد أعلن قبل أسابيع قليلة عن ضرورة الاحتفاظ بالسيف مشرعاً، لأنه ينوي الاحتفاظ بأكبر قدر من الأرض، في الوقت ذاته سيمنع حل الدولة الواحدة، وأنه يفكر بإقامة الحواجز والفواصل بين الفلسطينيين والإسرائيليين حتى في القدس!
لا شك أن منطق القوة والغطرسة يعمي عيون ليس نتنياهو فحسب، بل ومعظم الإسرائيليين الذين تحولوا بأغلبيتهم خلال العقدين الماضيين من الأغلبية اليمينية للأغلبية ذات النزعة الفاشية، ولعل استطلاع الرأي الأخير الذي أظهر أن 65% من الإسرائيليين يؤيدون عمليات الإعدام الميداني بحق شبان الانتفاضة الفلسطينية خير دليل على ما نقول.
لذا لا بد من القول: إن مشكلة الإسرائيليين باتت في فقدان العقل والتعقل، بسبب مما يظهر على أنه انتصارات سياسية وحتى عسكرية تتحقق، من خلال انفجارات المنطقة بعيداً عنهم، ولعلهم لم يفكروا في نتيجة الحرب الباردة، حيث إنه رغم أن الولايات المتحدة قد كسبتها، إلا أن أميركا لم تعد أكثر سيطرة على العالم، مما كان عليه حالها إبان تلك الحرب، بل وإسرائيل نفسها التي رأت في اتفاقيات كامب ديفيد عام 78 انتصاراً استراتيجياً لها، لم تدرك أنها باتت بعد تلك المحطة أكثر ضعفاً، في مواجهة الشعوب، فقد هزمها حزب الله في جنوب لبنان وهزمتها الانتفاضة الأولى، وواجهتها المقاومة في غزة، بشكل أكثر نجاعة مما كانت تواجهها به الجيوش العربية منذ عام 48 حتى عام 67.
وإن الصين ونمور آسيا، بل وحتى أميركا اللاتينية تفوقت على أمريكا بالقوة الاقتصادية والسياسية بعد الحرب الباردة، في حين كانت تتفوق أميركا على الجميع اقتصادياً وعسكرياً وسياسياً في الحرب الباردة، لذلك يمكن القول بثقة: إن الغطرسة التي تلازم إسرائيل الآن ما هي إلا عقب أخيل الذي سيشكل مقتل هذه الدولة، التي لا تجد من يردعها من التحول لدولة طائفية داعشية، في زمن يزداد فيه الانفتاح بين شعوب ودول العالم، بحيث لن ينقضي طويل وقت حتى يلفظ عالم الغد دولاًَ وقوى وسياسات الحقد والكراهية والقهر، وكما تسقط الآن الدولة العسكرية المستبدة في العالم العربي، ستسقط دولة إسرائيل كدولة احتلال وكدولة عنصرية، وربما لا ينقذها من قدر قاس محتوم سوى أن تتحول إلى دولة واحدة ثنائية القومية، ديمقراطية، دولة مواطنة، لكنها حتى تكون كذلك، لا بد لها من مواجهة، ومحاربة كل نزعات التطرف والعنصرية وبوادر الفاشية ليس في السياسية الإسرائيلية فقط، بل وفي المجتمع الإسرائيلي.
رجب أبو سرية