في بيت الرئيس الشهيد أبو عمار

بقلم: مازن صافي

في غزة، المدينة التي كانت أول مدن العودة في رحلة الثورة، مدينة كانت تعج بالحركة والحياة، يملؤها الأمل، لكنها اليوم تعيش الحصار والفقر والمستقبل الغامض، مدينة حلَّت بها لعنة الحرب .. مدينة احتضنت بيت أبوعمار .. مدينة أحبها وتربت فيها ابنته زهوة ودفن فيها والده وأخته، ولازالت تعيش فيها أخته الكبرى .. غزة كانت على موعد مشحون بالتاريخ وعبق الذكريات وكل ما له علاقة بأبوعمار.

يقول صديقي، قبل دخولي بيت أبو عمار، أحسست بأن شيء ما يتعمق فيَّ، وفي اللحظات الأولى لم أستوعب ما يجري، كما لم نستوعب حتى اللحظة كيف فقدناه وكيف استشهد وكيف رحل، البيت المتواضع للرئيس المتواضع، أول مرة أقف وجها لوجه مع زمن أبو عمار، ووقفت مذهولا أمام عظمة البيت على تواضعه الكبير، كل شيء يلامسك، يمتزج بمسامات الانفعال فيك، ولم أستطع في تلك اللحظات أن أحبس دمعتي، أو أمنعها من أن تنهمر، لا شيء يمكنه أن يوقف مشاعرك الجياشة، ودخلنا في الزمن الجميل، في تضاريس الثورة ومعالمها ورمزها وقائدها وعنوانها، كانت الأجواء وحدوية جدا ولكنها جارحة، مختلفة ومستفزة، مثيرة وصارخة، مكتومة وباكية.

البيت مكون من طابقين، في الطابق الأول صالة كبيرة وغرفة نوم خاصة ومكتب وكتب، وهنا كان يقضي أبو عمار جلَّ وقته حين يعود متأخرا الى البيت من مهامه التي لا تنتهي، وفي نفس المكان هناك غرفة فيها مقتنيات تاريخية تؤرخ لفترة هامة من حياة شعبنا ومن عمر ثورتنا وقائدها، صور عديدة مع زعماء ورؤساء رحلوا، وزعماء لا زالوا على قيد الحياة، وكذلك شخصيات دولية لها رمزيتها وأهميتها، وفي الطابق الثاني هناك ممر طويل وعدة غرف، ولاحظت أن أثاثها من الصناعة المحلية، وتشعر أنك في بيت إنسان متوسط الحال، غير مبذر او مسرف، متواضع صادق مع نفسه وشعبه وتاريخه وأهدافه، هناك غرفة أطفال احتضنت جزء من طفولة ابنته زهوة، وفيها ألعاب متواضعة أيضا، وغرفة نوم، وغرفة مكتب، وهناك غرفة للجلوس، وكأنها وجدت أيضا لتحتضن وحدة وطنية ظهرت للعالم في ساعة تسليم البيت لقيادة حركة فتح، و قادة الفصائل، وممثلين عن مؤسسة ياسر عرفات، والعديد من الإعلاميين الذين أبدعوا في نقل صورا حية من قلب زمن ياسر عرفات.

هذا البيت الذي شدَّ أنظار الفلسطينيين في ليلة قبل يوم من الذكرى الحادية عشر لاستشهاد صاحبه الفلسطيني الانسان الكائن في كل القلوب والذاكرة والتاريخ، يطلّ من جهته الغربية على شاطئ البحر اللازوردي، ويمكنك من الطابق الثاني أن تشاهد مهبط الطائرات الذي دمرَّه الاحتلال الذي مارس كل الحقد والعدوان ضد الشهيد أبو عمار، ومن جهته القبلية تشاهد مجمع أنصار.

يكمل صديقي والدموع تملأ عينيه، لقد لمسنا الكثير من مقتنيات زعيمنا وقائدنا ومعلمنا ووالدنا وحبيبا وشهيدنا، كان الغبار يعلو تلك الأشياء الثمينة في مدلولاتها وتاريخها، كأننا في حلم بعيد، تأتي فيه رائحة مسك من ملابس ابوعمار، فهذه بدلته العسكرية وهذا هو البالطو، وهذه هي كوفيته، وطاقيته الصوف " القبعة"، هذه آثاره تحكي قصة إنسان لم يكل أو يمل في أن يسافر كل العالم لكي ينقل مأساة شعب ينشد الحرية وإنهاء الاحتلال والعيش بكرامة فوق أرضه حاملا هويته متجذرا في تاريخه معانقا حضارته راسما أفقاً مضيئا للغد وللمستقبل.

وهذا سلاحه الشخصي الذي عانقه الجميع وحملته أيادي الفصائل في صورة نقلت لنا معنى السلاح ومفهوم الوحدة ولقاء أبناء شعب لازال يرزح تحت الاحتلال، هذا السلاح الذي حمله في طريق عودته من مصر مرورا بمستوطنة كفار_داروم وسط قطاع غزة، ويومها كانت مجموعات المستوطنين المتطرفين قد خرجت في مظاهرات ضد الرئيس ابوعمار، ويومها صمم ابوعمار أن يعبر الشارع بموكبه ونقلت عدسات المصورين يده التي حمل بها هذا السلاح وقد أخرجها من شباك السيارة ويرسل رسالة واحدة للاحتلال وللمتطرفين .

كل من دخل بيت الرئيس، ذُهل من التواضع ومن هندسته البسيطة وفائقة الجمال، وكذلك علت الدهشة وهم يتجولون ويملؤهم الفخر أنهم في بيت قائدهم ورمزهم، قائد فلسطين، في بيت الوطن الفلسطيني، ولسان حالهم يقول "لسنا بخير بعدك يا حبيبنا" .

بيت ابوعمار بتفاصيله يعكس في داخلك لوحة متكاملة مجردة تماما من الأنانية، جميلة في أركانها وألوانها ومظهرها البسيط، ولا تفارقك زرقة البحر ولا خط الأفق البعيد، وهذا يدلل على ان صاحبه كان يحمل أعلى درجات الذكاء والحكمة ويتميز بالحس المرهف الإنساني والوطني والراقي في تعامله والمتسلح بالفكاهة وروح الحياة حتى في أصعب محطات الحياة والأحداث .

بيت يستحق أن تعلو مدخله صورة له وللقدس ولعبارة شهيرة قالها وصدق فيها أمام الله ومن ثم شعبه وقضيته ومسيرته لتبقى شاهدا على زمن ابوعمار " يريدوني طريدا او أسيرا أو قتيلاً، لا ، أنا أقول لهم شهيداً، شهيداً، شهيداً" قالها في مارس 2002 واستشهد القائد المعلم الزعيم محمد عبد الرحمن عبد الرؤوف عرفات القدوة الحسيني " ياسر عرفات"   في 11/11/2004.

بيت الشهيد الرمز ابوعمار، سوف يتحول إلى متحف وطني، وهنا لابد من أن نقدم الشكر الكبير لأسرته الكريمة وللأخت سها الطويل زوجة الرئيس أبو عمار، وحتى يتم ذلك فإنني أطالب من خلال مقالي بهذا بسرعة تكليف لجان خاصة ومحترفة في مهامها، وتختص بتنظيف بيت الرئيس من الغبار الموجود فوق المقتنيات والأثاث لكي يتم ازالة الغبار بطريقة فنية دون ان يؤثر ذلك عليها، ولجان خاصة تختص بكتابة فقرات او نبذة عن تلك المقتنيات والصور من حيث أرشفتها وتوثيقها لكي يتم ترجمتها لتسجل في التاريخ وتصبح مقروءة لكل من يدخل هذا البيت المتحف الوطني "كنز كل فلسطيني"، ولجان حصر لكل ما في داخل البيت وتوثيقه، وايضا تحديد درجات الإضاءة والتصوير داخل البيت لكي لا يؤثر ذلك مستقبلا على جودة وسلامة تلك المقتنيات والأثاث وتوابع ذلك من كتب وصور، وكل ما له علاقة بمتحف يليق بشخصية وطنية لها حضورها وتأثيرها في مسيرة النضال الفلسطيني.

بقلم د.مازن صافي