في الإعلام العربي… عندما تصبح "الحيادية" تطبيعا

بقلم: علي الصالح

تشهد مفردات ومصطلحات لغة الصحافة والإعلام في العالم العربي تغييرات وتحولات كبيرة يعتبرها البعض "حيادية"، وأراها ذات دلالات سياسية خطيرة تعكس مواقف دول عربية بعينها تحاول أن تتدثر بأسمال بالية تغطي بالكاد عوراتها وخطواتها التطبيعية التدريجية مع إسرائيل.
لا يقتصر التغيير على المصطلحات فحسب، بل تعداها إلى مقالات تسمح صحف عربية بنشرها تحت راية "حرية التعبير" لكتاب لا يعبرون عن رأي، بل يكيلون الشتائم ويحرضون ويشجعون على قتل الفلسطينيين. مقالات تأبى نشرها حتى وسائل إعلام إسرائيلية ذات توجهات يمينية.
ويصطف هؤلاء الكتاب المارقون في مواقفهم الحاقدة، ولا أقول المتطرفة، إلى جانب غلاة المتشددين والعنصريين في أحزاب صهيونية شديدة التطرّف والعنصرية، كـ"البيت اليهــــودي"، من أمثال إيليت شاكيد وزيـــــرة القضاء في الحكومة العنصرية الإسرائيلية، التي دعت أثناء العدوان على قطاع غزة إلى قتل الأمهـــات الفلسطينيات الحوامل وبقر بطونهن وقتل أجنتـــهن التي لن تكون إلا أفاعي، حسب قولها. ولكن حتى شاكيد اضطرت إلى التراجع والتنصل من هذه الدعوات للقتل.
وأخص بالذكر من بين هؤلاء "الكتاب" المشوشة افكارهم والمارقين، "الكاتب!" في صحيفة "الوطن" الكويتية، عبد الله الهدلق، الذي لا يتوقف عن نشر المقال تلو المقال ضد الفلسطينيين، وملهمه محاضر يهودي لبناني يميني في جامعة بار إيلان اسمه أيدي كوهين، الذي يخصص معظم كتاباته للتشكيك بالفلسطينيين وقضيتهم والقدس والأقصى. ويغطي ذلك بالتأكيد على عروبته وتبرير هجرته إلى إسرائيل عام 1995 بالخوف من حزب الله، مدغدغا بذلك مشاعر بعض ضعاف النفوس والمهووسين.
وقبل أن نخوض في ما يقوله "الهدلق"، علينا أولا أن نعرف ما هو تعريف "الهدلق" الذي ينتمي اليه عبدالله… ففي "لسان العرب" هو البعير واسع الأشداق وجمعه هدالق.
لا يقع اللوم على هذا الانسان، ولكن على مدرسيه وأساتذته الفلسطينيين، الذين لم يحسنوا على ما يبدو تربيته وتعليمه.. فجاء تلميذا عاقا.
فماذا يقول هذا "الهدلق" في آخر هرطقاته في صحيفة "الوطن" الكويتية "رائدة حرية الرأي والتعبير"، التي اضطرت إلى حذف ما كتبه من موقعها الإلكتروني، بعد هجمة كويتية على "الهدلق" والجريدة نفسها وقذفهما بأقذع الأوصاف والشتائم. وما هذا إلا "غيض من فيض"، يقول: "يجب على الرئيس الفلسطيني، وقف التحريض على الكراهية، كما يجب عليه إدانة الهجمات التي تستهدف إسرائيليين. وذلك بعد تفاقم حالات الطعن ضد إسرائيليين في القدس وغيرها من المدن الإسرائيلية، وكما قال رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، فإن إرهاب السكاكين الفلسطيني لن يهزم إسرائيل". وأضاف "ومع تزايد جرائم الفلسطينيين، وإرهاب سكاكينهم ضد الجنود الإسرائيليين ومحاولات الاستيلاء على أسلحتهم، وضد المدنيين الأبرياء فقد أضحى من حق إسرائيل المشروع الدفاع عن النفس وقتل الإرهابيين (الفلسطينيين) مهما كانت أعمارهم أطفالاً وشباباً ذكوراً وإناثاً". وتابع القول، "إن مما يُحيِّرُ العقول أن يصمت المجتمع الدولي صمت الأموات عن جرائم (الفلسطينيين) ضد الإسرائيليين واستمرار مسلسل طعن الإسرائيليين وتنامي إرهاب السكاكين (الفلسطيني)، وينكر ذلك المجتمع الدولي حق إسرائيل المشروع في الدفاع عن نفسها وعن شعبها ومواطنيها". وأختتم، "دولة إسرائيل ستبقى قائمة لا يُرهبها إرهاب السكاكين (الفلسطيني) بينما شتات مخيمات اللاجئـــين (الفلسطيني) زائل لا محالة لأنه باطل (فلسطيني) أمــــام حقّ إسرائيل واضح وجلي، على الرغم من تخاذل المجــتمع الدولي عن مناصرة إسرائيل في دفاعها عن نفسها وعن شعبها وجنودها.. وهكذا ينتصر الحق الإسرائيلي، على الرغم من قلَّةِ مُناصريه ويُهزمُ الباطلُ (الفلسطيني) على الرغم من كثرة المصفقين له".
وصراحة ما يكتبه هذا "الهدلق" الذي لا يرتقي حتى إلى مستوى عميل، في مقالاته المسمومة، ليس ذا قيمة.. فقد حاول من هم أكبر منه التشويه وقلب الحقائق، بل قدم البعض دمه من أجل اسرائيل، وفشل جميعهم واندثروا كما سيندثر حتما هذا "الدهلق". ولا أدل على ذلك من فلول جيش لبنان الجنوبي الذين يطلبون الآن الغفران عن جرائمهم وخياناتهم، ويتوسلون من أجل السماح لهم بالعودة إلى أرض الوطن الذي خانوه، بعد أن خذلتهم ولفظتهم دولة الاحتلال، رغم ما قدموه لها من خدمات جليلة. وهذا مصير كل العملاء فلسطينيين كانوا أم لبنانيين أم عربا اخرين.. وتتواصل المسيرة وتبقى فلسطين القضية الأولى بشعبها الحي. وستبقى… ولن يجد "الهدلق" من يرأف به في يوم لحساب وهو حتما قادم.
لا يضير الشعب الفلسطيني اذا اختار هذا "الهدلق" ومن هم على شاكلته تأييد إسرائيل ودعمها، أو حتى الانخراط في جيشها، فهذا شأنهم.. وأقول مثلا كان يردده كثيرا الشهيد الراحل الرئيس ياسر عرفات، الذي احيى الشعب الفلسطيني الذكرى الـ11 لرحيله يوم الاربعاء الماضي "يا جبل ما يهزك ريح". ولا يعني الشعب الفلسطيني حتى سماح صحيفة كصحيفة "الوطن" لهذا "الهدلق"، بان يستخدمها منبرا للتحريض على الفلسطينيين وقتلهم.. ولكن ما يعني هذا الشعب هو صمت الحكومة الكويتية وموقفها من كل هذا.. وأتساءل كيف تسمح حكومة الكويت لهذه الصحيفة بنشر سموم هذا "الهدلق! وأمثاله بالتطاول على شعب له تاريخه ودوره في ما وصلت اليه الكويت.. سموم أنا على يقين أن الشعب الكويتي الذي نعزه ونقدره ونحترمه منها براء.. والله يخليكم بلاش التذرع بحرية الرأي والتعبير.
والمسؤولية الأكبر تقع على كاهل السفارة الفلسطينية في الكويت، التي كما يبدو تلوذ بالصمت وطبعا السلطة في رام الله.. وأتساءل كيف تقبل التهجم على شعبها وقيادته على هذا النحو.. هل تقدمت باحتجاجات رسمية؟.. وهل ردت الحكومة الكويتية وتحركت لقطع لسان هذا "الدهلق!!" وأمثاله وتحريم تعرضهم للشعب الفلسطيني ونضالاته ووقف التحريض ضده. نريد دليلا.
ومع أن "الهدلق!!" لم يكن إطلاقا موضوع هذا المقال فهو مارق على الصحافة وعلى الجنس البشري، وهو أقل من أن يشكل خطورة، لكن الحديث ذو شجون كما يقال، فإن الخطورة الحقيقية تكمن كما ذكرت في بداية هذ المقال، في المفردات والمصطلحات في لغة الصحافة ووسائل الإعلام العربية، التي تشهد تغييرات وتحولات كبيرة ذات دلالات سياسية خطيرة. منها وصف قناة "العربية" السعودية، عملية محطة القطارات المركزية في صحراء النقب بالاعتداء. وكذلك وصف قناة "سي بي سي" المصرية مستوطنين قتلا في الضفة الغربية بالشهيدين.
والأخطر من ذلك ما بدأته صحيفة عربية تصدر في الخارج، لإعطائها "فسحة ومتنفسا من الحرية" لا تحظى بها نظيراتها في الوطن، في تسعينيات القرن الماضي. ولعبت هذه الصحيفة دورا رياديا في التغيير التدريجي في المصطلحات. وأخذت هذه الجريدة في سياستها التحريرية، وهي بالتأكيد لا يرسمها رئيس التحرير، بل سلطات عليا، منحا تطبيعيا تدريجيا مع دولة الاحتلال بمصطلحات.
وأبدأ بمصطلح "دول الطوق" وهو المصطلح الذي كان يطلق على الدول العربية المحيطة بإسرائيل، وهي مصر والأردن وسوريا ولبنان، وما يعنيه هذا المصطلح من موقف سياسي، فاستبدلته تلك الصحيفة في تسعينيات القرن الماضي بـ"دول الجوار" وما ينطوي عليه المصطلح من معانٍ وإشارات سياسية.
وفي النصف الثاني من العقد الأول من القرن الواحد والعشرين، تجاوزت الصحيفة الخطوط الحمراء فأسقطت مصطلح "المحتلة" عند ذكر الاراضي الفلسطينية وكذلك عند ذكر جيش (الاحتلال) الاسرائيلي. وسبقت الصحيفة بسياستها هذه، بل تفوقت حتى على الصحف الامريكية والبريطانية وغيرها من الصحف العالمية، التي لا تزال تقرن كلمة "المحتلة" عند ذكر الاراضي الفلسطينية، ليس حبا بفلسطين والفلسطينيين، بل التزاما بالقوانين والتسميات الدولية. فهذه سياسة مجلس الأمن الدولي والجمعية العامة للأمم المتحدة.
والتغيير الثالث ذو الدلالة السياسية في تلك الصحيفة هو محاولة منع الصحافيين من استخدام تعبيرات مثل العدوان الاسرائيلي، وليس ثمة مبالغة في هذا القول. فرئيس تحرير هذه الصحيفة اعترض على مصطلح عدوان عن خبر يتعلق بالاعتداء الاسرائيلي على الأسطول التركي لكسر الحصار عن قطاع غزة، وقال "نحن لا نستخدم هذا التعبير في جريدتنا.. والشيء بالشيء يذكر فقد رقي رئيس التحرير هذا إلى منصب وزير في حكومة بلده فهنيئا لها به.
وفي هذا التغيير التدريجي الذي يمر من دون ملاحظة او انتباه، تكمن خطورة التطبيع وليس في مقال يكتبه "الهدلق" أو أحمد الجار الله، أو زيارة يقوم بها لإسرائيل نائب او سياسي مثل مثال الالوسي زعيم حزب الأمة العراقي، أو الكاتب المصري علي سالم أو كمال اللبواني المعارض السوري.. مثل هؤلاء وغيرهم هم مارقون وسيكون مصيرهم الفشل كما فشل غيرهم في إقناع ابن الشارع العادي الذي يبقى هو الأصل.
٭ كاتب فلسطيني من أسرة "القدس العربي"
علي الصالح