كم هو عظيم الشعب الفلسطيني ، عظيم في عطائه وصيره ، عظيم في ذكائه وألمعيته. البعض اعتقد أن الشعب الفلسطيني استسلم لواقع الاحتلال وللتعايش مع الاستيطان والمستوطنين ، ولليأس والإحباط ولسلطتين مأزومتين، وأنه لم يعد معنيا بقضيته الوطنية حيث قهره الفقر والبطالة والانقسام والحصار وغياب قيادة وطنية جامعة . إلا أن الواقع يقول إن الشعب الفلسطيني لا يمكن أن يستسلم للاحتلال أو يصمت لتدنيس مقدساته ، وأنه أكبر وأعظم حتى من قياداته ،وأن صمته كالجمر الخامد تحت الرماد يشتعل مع أول هبة ريح ، شعبنا يُعبِر عن أصالته وحسه الوطني وينتفض في لحظات لا يتوقعها أحد .
صدق الزعيم الراحل أبو عمار عندما قال إن الشعب الفلسطيني كطائر الفينيق ينتفض محلقا من وسط الرماد بعد اعتقاد أنه هلك .أبو عمار الحاضر فينا دوما والذي عاصر وشارك في كل الثورات والانتفاضات الحديثة ،والذي كان يؤمن بعظمة شعبه ويراهن عليه دوما ولم يخذله الشعب يوما. كانت رؤية الزعيم أبو عمار تنطلق من معرفته بتاريخ الشعوب وحركاتها التحررية حيث لا قوة تستطيع كسر إرادة شعب يناضل من أجل الاستقلال ، وتنطلق من إيمانه ومعرفته بالشعب الفلسطيني الذي يضرب بجذوره في أرض فلسطين منذ أكثر من أربعة آلاف سنة وقبل أن تظهر هرطقات ومزاعم دولة بني إسرائيل.
فعندما اعتقد كثيرون أن الشعب استسلم لواقع اللجوء والتشرد والوقوف أمام مقرات وكالة الغوث ،والتبعية لهذا النظام العربي أو ذاك ، نهض منتفضا منتصف الستينيات رافعا راية الوطنية الفلسطينية وكانت الثورة الفلسطينية المعاصرة مع حركة فتح ومنظمة التحرير بكل فصائلها ،ثورة غيرت وقلبت كل المعادلات والمخططات التي كانت تُحاك ضد القضية الوطنية .
وعندما اعتقد كثيرون أن خروج مصر من ساحة المواجهة مع إسرائيل بتوقيعها اتفاقية كامب ديفيد 1979 ،ثم خروج الثورة الفلسطينية من لبنان 1982 وتصفية كثير من قياداتها ومحاولة الالتفاف على الصفة التمثيلية لمنظمة التحرير الخ ، قد أنهى الثورة الفلسطينية وطوى صفحتها إلى غير رجعة ،نهض الشعب في انتفاضة الحجارة 1987 ليُسقِط مراهنات المتخاذلين والمتواطئين والمتآمرين حيث أعادت الانتفاضة وضع القضية الفلسطينية على سلم الاهتمامات العالمية .
وعندما قررت القيادة خوض مغامرة أوسلو وتأسيس سلطة لم يخذل الشعب القيادة وساهم في بناء السلطة ،وقَبِل الثوار والفدائيون أن يتحولوا مؤقتا إلى أجهزة أمنية تُنسق مع عدوهم التاريخي ، وانخرط الشباب والمثقفون في سلك الوظيفة العمومية ليتحولوا إلى موظفين يتقاضون أجرا ،وأرتبطت حياة الجميع براتب تقدمه جهات مانحة بشروط سياسية غير وطنية . كل ذلك على أمل أن تكون السلطة نواة الدولة وبداية الاستقلال .
وعندما اعتقد البعض أن القضية الفلسطينية ومشروع السلام الفلسطيني وصلا لطريق مسدود بعد نهاية المرحلة الانتقالية لسلطة الحكم الذاتي 1999 وتَهَرب إسرائيل مما عليها من التزامات وبعد فشل مفاوضات كامب ديفيد الثانية 2000 انطلقت الانتفاضة الثانية ،والتي كان من الممكن أن تكون حصيلتها أفضل مما كان لو لم تتدخل الأجندات الإقليمية وأصحاب المشاريع غير الوطنية وتنزلق الأحزاب نحو حسابات مصلحية ضيقة .
وعندما خاضت حركة حماس وفصائل مقاومة أخرى ثلاثة حروب مدَمِرة في قطاع غزة ،ألحقت بالقطاع خرابا ودمارا وسقط فيها آلاف الشهداء وعشرات آلاف الجرحى ،صبر الشعب وتحمَّل ولم يخذل فصائل المقاومة حتى وهو يعلم أنه كان بالإمكان تجنب بعض هذه الحروب أو تقليل خسائرها ،ويعلم أنها لم تكن حروبا لتحرير فلسطين بقدر ما كانت من مستلزمات صناعة دولة غزة وتعميق الانقسام ،أو نتيجة حسابات عسكرية وسياسية خاطئة.
الشعب الفلسطيني هو نفسه من حيث أصالته واستعداده للتضحية ،بالرغم من تردي أوضاعه الاقتصادية والاجتماعية وشدة وطأة الاحتلال والحصار . الشعب الفلسطيني لم يتغير ما بين الأمس واليوم ،ما تغير للأسوأ هو العالم العربي الذي تخلى عن مسؤولياته تجاه القضية الفلسطينية ، والمجتمع الصهيوني الذي يزداد تطرفا وإرهابا ، والنخب الفلسطينية السياسية والاقتصادية والاجتماعية وارتباطاتها وشبكة مصالحها .
الشعب لم يقصر ولم يتخاذل يوما وكان دوما معطاء ويلبي نداء الواجب الوطني متى دعته القيادة الوطنية سواء لثورة أو انتفاضة أو لدعم جهود دبلوماسية وسياسية ، بل ويأخذ المبادرة لحماية قضيته الوطنية وقيادته عندما تتعرض القيادة السياسية للحصار والتآمر ، ولكن ليس دوما تتوافق وتتطابق حسابات الشعب مع حسابات النخبة السياسية والقيادة .
لم يشهد التاريخ الحديث للشعب الفلسطيني افتراق وتباعد النخبة عن الشعب كما هو حاصل اليوم ،بحيث باتت خيارات الشعب وحساباته غير خيارات النخبة السياسية وحساباتها ،هذا الافتراق نلمسه في كيفية التعامل مع الانتفاضة الراهنة. ففي الوقت الذي تتخبط فيه النخب السياسية في الانقسام وتداعياته ، وفي البحث عن منافذ للخروج من مأزق خياراتها التي تفردت بها بعيدا عن التوافق الوطني ، وفي الوقت التي تتصارع النخب حول السلطة ومنافعها ، في هذا الوقت انتفض الشعب ،ليس لأنه مُحبط بل ليدافع عن أرضه ومقدساته وكرامته،ولأنه لمس عجز الأحزاب والنخب السياسية عن حمايته والتهائها بالانقسام وتداعياته والسلطة ومنافعها، ولمس محدودية تأثير المقاومة المسلحة وصواريخها وأنفاقها ،ومحدودية مردود المراهنة على الشرعية الدولية وقراراتها.
في مقابل عظمة الشعب تقف النخب السياسية والأحزاب موقفا مترددا ومرتبكا من الانتفاضة الراهنة ،حيث ما زالت النخب والأحزاب وفئة من المثقفين مترددة حتى في تسميتها بالانتفاضة ،بل تخوض جدلا بيزنطيا عبثيا حول إن كانت هبة أو انتفاضة أو حالة غضب ؟ ! وهل من الأفضل أن تبقى سلمية أو تتحول للعمل المسلح ؟ ! متجاهلين أن كل الثورات في العالم ككرة الثلج المتدحرجة، تبدأ بحراك شعبي محدود ثم يتحول لهبة ثم لانتفاضة ثم لثورة عارمة، ولا توجد معايير ومقاييس دقيقة للتفريق بين الحراك الشعبي والهبة والانتفاضة.
هذا الموقف المتردد للنخب السياسية والأحزاب مما يجري في الضفة والقدس ، وعدم انخراط الأحزاب بقوة وبكل ما تملك في الانتفاضة سواء في الضفة وغزة ،واقتصارها على التأييد اللفظي إنما يكشف الواقع البائس لهذه النخبة وانشدادها لمصالحها وخوفها عليها أكثر من انشدادها للمصلحة الوطنية.
بقلم/ إبراهيم أبراش