التوظيف الإسرائيلي للمأساة الفرنسية

بقلم: عيسى الشعيبي

بعد أن أوسع الساسة والكتّاب والإعلاميون، وكل ذي رأي مستنير، تنظيم "داعش" شتماً مستحقا، طوال الأيام القليلة الماضية، وأشبعوه قدحاً وذماً على ارتكاباته الإرهابية الأخيرة، لاسيما في الواقعة الباريسية المروعة؛ فإنني لم أجد ما يمكن إضافته إلى حفل الهجاء هذا؛ أي مقاربة أخرى قد تكون مفيدة، سوى لفت الأنظار إلى الطريقة الانتهازية المقيتة التي تعاملت بها إسرائيل مع المصيبة الفرنسية، وبيان بعض محاولاتها الوضيعة للاستثمار في آلام جرح نازف، بلغ مداه القارة الأوروبية.
فما إن وقعت المأساة الباريسية، حتى أعلن رئيس حكومة اليمين المتطرف بنيامين نتنياهو، عن إدانته للعمل الإرهابي المروع. وهو أمر لم يشذّ عنه أي متحدث رسمي في العالم، إلا أن نتنياهو سارع إلى حرف الانتباه عما يقارفه من إرهاب دولة منظم، على رؤوس الاشهاد، زاعما أنه يواجه والرئيس الفرنسي فرانسوا أولاند، الإرهاب ذاته، وأنهما يجذّفان في قارب واحد، ضد موجة سوداء واحدة، خالطاً حابل الكفاح الوطني المشروع ضد احتلال عنصري، مع نابل ما يسميه "الجهاد الإسلامي الراديكالي".
وليست هذه هي المرة الأولى التي يتم فيها هذا الخلط الإسرائيلي المتعمد بين السواد والبياض، أو قل بين غث الإرهاب وسمين المقاومة المشروعة. فقد سبقه إلى ذلك أرييل شارون، غداة أحداث 11 أيلول (سبتمبر) 2001؛ حين زعم أبو الاستيطان والمذابح الإسرائيلية، أن أميركا وإسرائيل ضحيتان لذات الجهة، يواجهان عدواً من طينة مشتركة، وأنه إذا كان لواشنطن رمز اسمه أسامة بن لادن، فإن لدى تل أبيب صنو له اسمه ياسر عرفات!
إلا أن الخطاب الإسرائيلي بدا في هذه المرحلة أشد عدمية مما كان عليه في أي وقت مضى. ففي عهد شارون، دعت إسرائيل نفسها للمشاركة في الحرب الدولية التي قادتها الولايات المتحدة ضد الإرهاب الذي عصف بالبرجين في نيويورك؛ أما في زمن نتنياهو، فقد بدت إسرائيل شامتة بفرنسا، المتعاطفة مع الفلسطينيين، بل ومتشفية بالأوروبيين الذين وسموا بضاعة المستوطنات في أسواقهم، وقاطع بعضهم جامعاتها وبنوكها، مدعية أن السياسات الأوروبية المتراخية هي التي تشجع الإرهابيين على اختلاف مسمياتهم.
ولم تتوقف الحماقة الإسرائيلية، وعماء البصر هذا، عند حدود القول للأوروبيين "بتستاهلوا... خرجكم"، وهو قول لا يجود به سوى العقل الصغير والخيال المريض. بل دعا بعض الكتّاب وغلاة الساسة اليمينيين إلى حرمان فرنسا من خدمات "الموساد"، وعدم مساعدة باريس، سواء بالإمدادات الطبية، أو باستقبال الجرحى الفرنسيين للعلاج، وكأن العاصمة الفرنسية هي إحدى عواصم أفريقيا جنوب الصحراء، لا يوجد فيها أرقى المستشفيات وأبرع الأطباء في العالم.
ومع أن العمليات الإرهابية الأخيرة في باريس لم تشمل، هذه المرة، متجراً أو كنيساً يهودياً، على نحو ما جرى في المرات السابقة، خصوصا في أوائل العام الحالي، إلا أن اسرائيل، التي بدت آسفة ضمنياً على عدم وجود ضحايا يهود بين مئات القتلى والمصابين في الهجمات السبع المتزامنة، لم تفوت هذه الفرصة أيضاً، كي تدعو مجددا أعضاء الجالية اليهودية الفرنسية إلى الهجرة، زاعمة أنها أكثر أمناً واستقراراً من أي بلد في القارة الأوروبية، المعرضة لموجة عاتية من الهجمات الإرهابية.
وفي الوقت ذاته، استغلت الماكينة الإعلامية/ السياسية الإسرائيلية هذه الواقعة الإرهابية الشنيعة، لتقريع الفرنسيين بشدة، ولوم سائر البلدان الأوروبية، على انتقاداتهم المستمرة لسياسة الاستيطان، وقمع حقوق الإنسان، والانتهاكات التي ترتكبها قوات الاحتلال في الأراضي الفلسطينية، قائلة لهؤلاء جميعاً بوقاحة: أرأيتم، لا تنصحونا بضرورة تفهم دوافع "الإرهاب" الفلسطيني الذي ينبغي النظر إليه كفرع نشط من فروع الإرهاب الإسلامي، المهدد لنا مثلكم.
هكذا، اهتبلت إسرائيل المأساة الفرنسية، بطريقتها الانتهازية المعروفة، كي تعيد تقديم نفسها للعالم الغربي على أنها الحصن الحصين المتقدم، في مواجهة ما تصفه ببرابرة العالم الإسلامي، داعية الأوروبيين للوقوف إلى جانبها، والشد على أيديها، بدلاً من مقاطعة صادرات مستوطناتها، والحديث الممل عن فظاظة انتهاكاتها، ناهيك عن تغول احتلالها، الأمر الذي بدت فيه الدولة الاستعمارية في عصر ما بعد الاستعمار، تتعاطى مع هذه التفجيرات على أنها فرصة سانحة للخروج من عزلتها الدولية المتزايدة، وفق منطق المثل القائل: "مصيبة قوم عند قوم فوائد".

عيسى الشعيبي