إذا كانت مسألة أنّ الجماهير، وخصوصاً الفلسطينية، تسبق قياداتها عادة، هي مقولة قديمة كانت القيادات الفلسطينية تفاخر بها للدلالة على حيوية الشعب، فإنّ الحقيقة أنّ هذه الجماهير في الغالب كانت من ضمن قاعدة الفصائل التنظيمية، أو قريبة منها، أو مستعدة للانضمام إليها. والأهم أنّ القيادات كانت سريعاً ما تلحق بالجماهير، التي تفسح لها المجال في مقدمة الصفوف، لتوليّ القيادة، وللقيام بأدوار تحتاجها الجماهير، وأهم هذه الأدوار، تحويل الطاقة الشعبية الثائرة إلى برامج عمل محددة، وتطوير شعارات المرحلة التي تصبح هي أهداف الحركة الجماهيرية ونبراسها وكلمات هتافاتها في الشارع، وحتى كلمات أغنياتها.
إحدى المسائل الشاذة التي تبرز في اللحظة التاريخية الراهنة، والفلسطينيون يقتربون من نهاية الشهر الثاني لانتفاضتهم، هي أنّ ما يجري في العادة هو أن تطرح القيادات السياسية والجماهير شعارات وأهدافا، كثيراً ما تبدو غير واقعية، تُبالِغ في تقدير إمكانات الجماهير لتحقيقها، لكن في المرحلة الحالية، يبدو هناك حراك وجماهير، من دون شعار، وكل ما قيل حتى الآن يكاد ينحصر في الدعوة إلى تبني أهداف متواضعة!
لم يفعل إعلان حركة "فتح" رسمياً، هذا الأسبوع، تأجيل مؤتمرها العام الذي كان مقررا هذا الشهر، بعد سلسلة تأجيلات بدأت منذ العام الماضي، إلا تأكيد ما يعرفه كل من يتابع أمور الحركة، ولو عن بعد، وهو أنّ انعقاد المؤتمر، أو لملمة الصفوف، أو وضع استراتيجية وطنية واضحة وعملية ومبرمجة، أو تجديد قيادة الحركة، كلها أمور بعيدة المنال.
ليس معروفاً أبداً كيف يمكن أن يفهم أحد تصريح نائب رئيس المجلس الثوري للحركة، فهمي الزعارير، وهو يقول "تم تأجيل انعقاد المؤتمر العام السابع لحركة فتح، انطلاقا من حرص الحركة على تعزيز أركان هبّة القدس والحفاظ عليها".
ويضاف عدم انعقاد مؤتمر فتح العام، إلى عدم انعقاد المجلس الوطني الفلسطيني، كما لا ينعقد المجلس المركزي، وطبعاً لا يلتئم الإطار القيادي الموسع المتفق عليه بين الفصائل لتسيير شؤون منظمة التحرير الفلسطينية. وكل هذا يشكل تَجَسُّد حالة الفراغ وعدم الحضور من كل المؤسسات والتشكيلات القيادية الفلسطينية القديمة، هذا فضلا طبعاً عن المجلس التشريعي المجمد.
عندما اندلعت الانتفاضة الفلسطينية العام 1987، لم يكن قد مضى سوى ثمانية أشهر على عقد دورة مكتملة الأركان للمجلس الوطني الفلسطيني (في نيسان (أبريل) من ذلك العام)؛ أي كانت هناك لجنة تنفيذية جديدة لمنظمة التحرير الفلسطينية، حيوية (بينما يوجد الآن لجنة تنفيذية تقدم أعضاؤها بنوع من الاستقالة قبل أشهر، ومضى على وجودهم سنوات طويلة، وهم أنفسهم يعترفون بعدم فعاليتهم). وعندما انطلقت انتفاضة 1987، لم يكن قد مضى سوى شهرين على انعقاد المجلس المركزي، في تونس. ولكن بعد أقل من شهر على الانتفاضة، انعقد المجلس المركزي مجددا، في بغداد.
ليس معروفاً ماذا يقصد الزعارير وهو يشير إلى أن عدم اجتماع "فتح" يدعم الهبة الشعبية!
لا يوجد موقف واضح أو محدد لحركة "فتح" مما يجري على الأرض من حالة انتفاضية، لا تمتد لتصبح حركة شعبية شاملة، والسبب في ذلك أنّ الفصائل، وأهمها "فتح"، لم تطور برنامج عمل لها، ولا تقول للشارع إن كان لديها بديل، وما هو.
لا يمكن فهم وتقبل تصريح الزعارير وقادة "فتح" حول ما يجري إلا إذا تخيلنا أن هناك تصورا متكاملا معقدا غريبا للتعامل مع الانتفاضة، يقتضي عدم انعقاد هيئات الحركة. لكن لا يوجد أدنى مؤشر على شيء مثل هذا، وكل المؤشرات هي على حالة غياب كاملة عن المشهد، خصوصاً في المستوى القيادي للحركة.
هذه الانتفاضة والوضع الراهن، يستحضران بقوة نظرية نعرفها في علم الاجتماع، هي نظرية الدور والمكانة. فأي دور في المجتمع، من مثل دور القائد السياسي، ووجيه العائلة، يتبعه الحصول على مكانة اجتماعية وسياسية، وإذا لم يقم الشخص أو الهيئة بما يتوقع منهما من أدوار، فإنهما يفقدان مكانتهما، بغض النظر عن الاحترام التاريخي، والرصيد؛ وبغض النظر عن أي أمجاد كانت في الماضي. ويجدر أن تتأمل "فتح" هذه النظرية.
أحمد جميل عزم