شكلت الانتفاضة الفلسطينية التي دخلت شهرها الثاني ، حلقة في السلسلة الطويلة من السياق النضالي والكفاحي لشعبنا الفلسطيني منذ العام 1919 . ولكن اليوم ما يجعلها تشكل العلامة الفارقة أنها أتت في لحظة سياسية تعيشها المنطقة بدولها وأقطار من تطورات وأحداث لم تشهدها منذ مائة عام ، مما فرض حالة شبه كاملة من التخلي والتراجع في الاهتمام العربي والإسلامي بالموضوع الفلسطيني ، لتتحول في سلم الأولويات إلى مرتبة متدنية .
ذاتها اللحظة هي ما شكلت بالنسبة للكيان الصهيوني ، التي لن تتكرر من إتاحة المجال أمامه ومستوطنيه وغلاتهم من أجل الذهاب عميقاً في فرض الوقائع الميدانية على الفلسطينيين ، وتسريع الخطوات باتجاه تهويد مدينة القدس والسيطرة المطلقة زمانياً ومكانياً على المسجد الأقصى مقدمة لإشادة " الهيكل " المزعوم كهدف إستراتيجي ، وفق فلسفة لطالما يتم تردادها بأن " لا معنى لإسرائيل من دون أورشليم ، ولا معنى لأُرشليم من دون الهيكل " . مضافاً لذلك استفحال الاستيطان ، واتساع دائرة الاعتقالات والقتل ، ولا سيما على يد ما تسمى بعصابة " تدفيع الثمن " الصهيونية ، التي ارتكبت الاعتداءات على دور العبادة الإسلامية والمسيحية في مناطق مختلفة من الضفة الغربية ، وممتلكات وأرزاق وأرواح الفلسطينيين ، وحرق الفتى المقدسي محمد أبو خضير في آواخر حزيران 2014 ، وحرق عائلة الدوابشة في نابلس مثال صارخ على العقيدة الصهيونية المشبعة بالإجرام والمحارق والمجازر والعنصرية ضد الشعب الفلسطيني . وبالتالي مثل القهر السياسي والأمني والاقتصادي الذي يتعرض له الشعب الفلسطيني ، وإنغلاق الأفق أمام ما يسمى ب" عملية السلام " والمفاوضات بين السلطة الفلسطينية و" إسرائيل " ، فيما مثله من عوامل ضاغطة باتجاه أن يذهب الشباب الفلسطيني نحو تفجير كل ما يعتملهم من ألم ومعاناة وقهر في وجه الاحتلال والمستوطنين .
هذه الانتفاضة التي بدأت ارهاصاتها تتجلى منذ زمن في أعمال مقاومة فردية ومظاهرات قريتي بعلين ونعلين في مواجهة الجدار العازل ، كانت تحول بينها وبين مواجهة الاحتلال على الدوام " اتفاقات أوسلو " بملحقاتها الأمنية " التنسيق الأمني " . وكانت من الممكن أن تشكل عملية إحراق الشهيد محمد أبو خضير الشرارة التي بدأت نارها في هشيم الاحتلال وحكومة نتنياهو الذي سرعان ما ذهب إلى شن الحرب الثالثة على قطاع غزة ، هرباً من الهبة الشعبية التي بدأت تتسع دائرتها . ورغم ذلك بقيت روح الانتفاضة حاضرة في نفوس الشباب وعزائمهم وبين أضلع إراداتهم في انتظار اللحظة ، التي جاءت قبل شهر لتبدأ باكورتها مع الشهيد مهند حلبي ابن أل 19 ربيعاً ، الذي نفذ عملية وسط مدينة القدس . مضافاً لذلك سياسة الاستيطان والتهويد للأراضي في الضفة والقدس ، وازدياد أعمال الاقتحامات الممنهجة التي ينفذها المستوطنين بحماية الأجهزة الأمنية ، التي فرضت التقسيم الزماني خطوة على طريق التقسيم المكاني . وكذلك شكل انسداد أفق التسوية عبر المفاوضات العبثية ، ووصولها إلى مأزقها الراهن مما عرّض الحقوق الوطنية إلى مزيدٍ من التبديد والضياع ، عاملاً مؤثراً في دفع الشباب الفلسطيني نحو التحرك الذي نعايشه في الانتفاضة الشعبية الثالثة . ناهينا عن حالة الخذلان التي يعيشها الشعب الفلسطيني ، بسبب التخلي الذي تمارسه الدول العربية والإسلامية - ( إلاّ ما رحم ربي ) – بما يتعلق بقضيته الوطنية عموماً ، وقضية القدس والمسجد الأقصى على وجه الخصوص .
تاريخ السكين المقاوم
عمليات الطعن التي تشهدها الانتفاضة الثالثة تعيد للأذهان :-
- إلى أول عملية طعن نفذها مواطن فلسطيني ضد الصحفي الصهيوني " آشر لازار " في حي ماميلا بالقدس ، احتجاجاً على قرار التقسيم في العام 1947 .
- وقبلها عملية الثائر الشهيد ( سليمان الحلبي ) ابن مدينة حلب الشهباء ، الذي قدِم من أقاصي الشمال في سورية إلى القدس ، ومن ثم إلى غزة ، وصولاً إلى القاهرة ، حاملاً سكينه التي قتل بطعناته الأربعة الجنرال الفرنسي " كليبر قائد الحملة الفرنسية على مصر في العام 1800 ".
- وفي ثورة البراق 9 أب عام 1929 ، واجه شعبنا بعصيه وحجارته وسكاكينه ، قوات المستعمر الإنجليزي والعصابات الصهيونية المدجج بالسلاح والمجنزرات والطائرات . وشهدت مدينتي صفد والخليل أعنف المواجهات أُعدم على إثرها الشهداء ( محمد جمجوم ، وفؤاد حجازي ، وعطا الزير ) . وكان لاستخدام " السكاكين " الأثر المباشر في تكبيد الأعداء خسائر كبيرة " قتل 133 ، وجرح 339 صهيونياً " .
- وفي معركة الكرامة في 21 آذار عام 1968 ، بين قوات الثورة الفلسطينية والجيش الأردني من جهة والقوات " الإسرائيلية " من جهة ثانية ، كان للسلاح الأبيض أي " الحربات " ، دوراً مهماً في لحظة الالتحام ، حيث سقط العديد من الجنود الصهاينة .
- وفي عام 1986 نفذت عمليات بواسطة السكاكين في قطاع غزة ، عندما نفذ المناضل ( خالد الجعيدي ) ، عملية طعن قُتل بنتيجتها 3 صهاينة .
- خلال الانتفاضة الأولى في 8 كانون الأول عام 1987 ، تصدرت ظاهرة الطعن بالسكاكين ، فأطلق عليها " ثورة السكاكين " . ومن أبرزها عمليةُ ( عامر أبو سرحان ) في القدس ، وعملية الشهيد ( رائد الريفي ) في مدينة يافا ، والشهيد ( طلال سليم الأعرج ) في غزة ، وعملية ( أشرف البعلوجي ) و( مروان الزايغ ) عام 1990 . وقد فرضت عمليات الطعن العمليات على الصهاينة من صحفيين ومحللين إلى الحديث عن الإنسحاب من الأراضي المحتلة عام 1967 . ويومها صرح الإرهابي " اسحق رابين " من موقعه كوزير الحرب في الكيان ، بـالتالي :- " إننا نعيش وضعاً من الارتفاع الشامل في العنف ، ومن المتوقع أن يستمر هذا الوضع . ونحن نتوقع استمرار العنف المميز في رجم الحجارة والطعن بالسكاكين " . و" عاموس غلبواع " كتب في مقال في صحيفة " معاريف " العبرية عام 1990 ، واصفاً ظاهرة السكاكين بالقول : - " الرمز ليس الحجر أو الزجاجة الحارقة ، وإنما السكين والخنجر ، وحامل السّكين ثروة فلسطينية ، لأنه يتسلل إلى كل مكان ، ويصل إلى عتبة كل منزل ، وحافلة ركاب ومقهى " .
- وبقي السكين الفلسطيني حاضراً حتى ما بعد " اتفاقات أوسلو " عام 1993 فنفذت ولغاية العام 1999 496 حالة طعن بالسكاكين ، قُتل على إثرها 19 صهيونياً وإصابة العشرات ، بل المئات ، بحسب تقارير الأجهزة الأمنية الصهيونية .
- وفي عام 2014 نفذت عملية طعن وإطلاق نار جريئة ضد كنيس صهيوني في القدس نفذها الشهيدان ( عدي وغسان أبو جمل ) .
- وصولاً إلى عملية ( بيت فوريك ) في الأول من تشرين الأول 2015 ، وعملية الشهيد ( مهند حلبي ) في 3 تشرين الأول 2015 ، لتتوالى عمليات الطعن ، ومن أبرزها عملية الطعن وإطلاق النّار التي نفذها الشهيد ( بهاء عليان ) والأسير ( بلال غانم ) و( علاء أبو جمل ) ، وغيرهم من أبطال شعبنا .
رامز مصطفى