بغض النظر عن التوصيف حول ما تشهده الأراضي الفلسطينية المحتلة من مواجهات واشتباك مع قوات الاحتلال الصهيوني في القدس والضفة والأراضي المحتلة عام 1948 وقطاع غزة ، أجد من غير الحكمة في مكان أن تشكل نقطة خلافية أو تباين بين الفصائل الفلسطينية ، التي أطلقت معظمها اسم الانتفاضة ، من خلفية أنها بدأت في القدس وهي اليوم تعم الضفة ونقاط اشتباك في القطاع بسبب أن قوات الاحتلال تقف على تخوم القطاع لا في داخله ، ومناطق فلسطين المحتلة عام 1948 ، والبعض القليل لا يزال يرى فيها هبة شعبية لم تصل بعد إلى أن تكون انتفاضة ، لأنها بحاجة إلى عناصر لم تؤمن بعد لهذه الهبة لتتحول إلى انتفاضة . وكتب " جدعون ليفي " في " هآرتس " العبرية معتبراً أنّ " الانتفاضة الثالثة قائمة بالفعل ، ولكن يجب أن نأخذ بعين الإعتبار العوامل التي حالت دون إندلاع إنتفاضة حتى الآن ، وهو الثمن الباهظ الذي دفعه الفلسطينيون في الإنتفاضة الثانية ، وغياب القيادة التي تحرك الشعب للقيام بإنتفاضة جديدة واسعة النطاق ، والإنقسام الداخلي الفلسطيني . فضلاً عن العزلة الدولية للفلسطينيين وسط لامبالاة دولية متنامية ، والتحسن الطفيف للوضع الإقتصادي في الضفة الغربية " .
وهنا لابد من التنبه أن هذه الإشكالية لها محاذيرها في التوصيفين ( الهبة أو الانتفاضة ) ، ففي الأولى أي الهبة ، المحظور يكمن بأن لا نعطي الاحتلال كسباً سياسياً أو إعلامياً ودعائياً ، بمعنى لا يجوز أن نساعد حكومة نتنياهو في تسويق توصيفهم عن أن ما يجري هو حالة احتجاجية ليست على ذي أهمية ، وهي ذاهبة نحو الهدوء التدريجي وصولاً لخمودها وانتهائها ، وهي لا تشي بأي حال من الأحوال على ذلك بل هي في تصاعد وإن ببطء وهذا يُعد من نجاحاتها لا إخفاقاتها . وأن ليس من الحكمة تطمينه أي للاحتلال ، على أنها هبة يجب تحقيق بعض المطالب أو التعهدات وتنتهي ، وهذا ما يُعاكسه نتنياهو وحكومته ف" مشهد الاقتحامات للمسجد الأقصى لا يزال على حاله ، وسن القوانين العقابية ضد راشقي الحجارة ، والإعدامات بحق الفلسطينيين مستمرة ، واستخدام الرصاص الحي من قبل جنود الاحتلال في مواجهة المنتفضين متواصل ، وعزل الأحياء العربية في القدس يجري على قدم وساق ، والاستيطان وبناء الوحدات الاستيطانية في وتيرة متصاعدة " . وبالتالي أن لا نسمح للاحتلال في النجاح بتسويق ذلك إعلامياً ودعائياً في تطمين حلفائه الدوليين أن الأوضاع لا تدعو إلى القلق ، والمسألة مسألة وقت وينتهي كل شيء . وأصحاب هذا التوصيف ينطلقون من خلفية إعطاء الفرصة للمجتمع الدولي والدول النافذة وتحديداً الإدارة الأمريكية من أجل التحرك وإنقاذ العملية السياسية المتصلة بالمفاوضات بسبب السياسات " الإسرائيلية " . وبذلك هم لا يريدون إغلاق الأبواب أمام الجهود السياسية . أما فيما يتعلق في التوصيف الثاني أي الانتفاضة ، فإن المحظور يكمن في عدم شموليتها واتساعها وانخراط جميع القوى والفصائل وبشكل أساسي ( حركة فتح ذات الثقل الرئيسي في الضفة والقدس ) ، وفق استراتيجية وطنية تحدد هيئاتها ولجانها الوطنية الميدانية ، والأهداف والوسائل وفعالياتها اليومية ، " وهنا ليست بالضرورة أن تشمل كل المخيمات والمناطق دفعة واحدة " . لأنه من دون ذلك ، وفي ظل مساعي الإدارة الأمريكية والغربية وبعض الإقليمية الهادفة إلى إنهاء ما تشهده الأرض الفلسطينية من أعمال انتفاضة ، والخشية من نجاحها ، وبذلك سيكون مصير الانتفاضة في مهب الريح ، وهذا سيترك من التداعيات الشيء الخطير على الشارع الفلسطيني ، ويعطي الاحتلال جرعة قوية في اتجاه المضي ببرنامجه في فرض وقائعه الميدانية في التهويد والاستيطان .. الخ . وأصحاب هذا التوصيف ينطلقون من خلفية أنه آن الأوان لقلب الطاولة في وجه الاحتلال ، وإنهاء العملية السياسية العقيمة والتي أتت على حساب الشعب الفلسطيني وحقوقه التاريخية الثابتة والمشروعة وفي مقدمتها حق العودة .
لذلك يجب أن تُوضع التسمية والتوصيف في ميزان الحسابات الوطنية الدقيقة ، وإلاّ تشكل هذه الإشكالية نقطة خلاف وسجال سياسي أو إعلامي ، وأن تبقى على راهنها ، وأن تذهب الفصائل والنخب إلى الأساسيات بما يتعلق بالانتفاضة .
المحاذير والمعيقات
بعد مضي ما يزيد على الشهر والنصف على اندلاع الانتفاضة ، يجب المحاذرة والتنبه من الآتي :-
1. عسكرة الانتفاضة التي هي بحد ذاتها فعل مقاوم ، وإبقاء تحركاتها في إطارها الشعبي والجماهيري ، وترك موضوع التوافق حول الأساليب والوسائل للفصائل , وهذا لا يعني إسقاط الكفاح الشعبي المسلح .
2. التصعيد العسكري في قطاع غزة ، حتى لا يُعطى نتنياهو وجنرالاته فرصة الهروب إلى حرب جديدة ضد القطاع . وإبقاء التحركات في إطار الإسناد من خلال التظاهرات والفعاليات الجماهيرية ، وفق برنامج تحدده القوى الوطنية والإسلامية في القطاع .
3. القيام بفعاليات فصائلية خاصة ، وإبقاء هذه الفعاليات في إطار الجهد الجماعي الموحد للفصائل ، تحت راية الفصائل والقوى الوطنية والإسلامية .
4. استمرار السجالات السياسية والإعلامية في الساحة الفلسطينية ، وتجميد كافة الخلافات الناجمة عن الانقسام ، إذا لم يكن في المقدور إنهائه وهو المطلوب ، وبالتالي الوقف الفوري لعمليات الاعتقال للناشطين من مختلف الفصائل ، تحت أحجية وتهم لا تستند إلى مبررات أو مسوغات قانونية ، وذلك لصالح إبقاء التناقض والصراع الأساسي مع العدو الصهيوني ومستوطنيه .
5. تشكيل قيادة موحدة للانتفاضة أقله في المرحلة الراهنة ، واقتصار الأمر على لجان متابعة محلية ، وذلك لسببين الأول لا يجوز إعطاء الاحتلال عناوين يُسّهل عليه توجيه ضربة لها من خلال الاغتيالات أو الاعتقالات ، والثاني طالما أن الانقسام لم ينتهي فقد تتحول القيادة الموحدة منبراً جديداً للتراشق السياسي والإعلامي ، مما ينعكس سلباً على الانتفاضة .
6. إبقاء الانتفاضة في مناطق محددة ، الأمر الذي يستوجب اتساع رقعة انتشارها لتشمل كافة المناطق وإن تدريجياً . والعمل على وضع آليات تنظيمها .
7. أن تلعب السلطة وأجهزتها دوراً محايداً بين شبان الانتفاضة وقوات الاحتلال . بل الواجب وقف التنسيق الأمني مع الاحتلال من جهة ، ومن جهة أخرى أن تلعب السلطة ومعها الفصائل دوراً في توفير الرافعات الوطنية للانتفاضة ، من خلال احتضانها وشهدائها وجرحاها ومعتقليها .
8. إبقاء سلاح المقاطعة الفلسطينية مقتصراً على المنتجات الصهيونية المستوردة من المستوطنات ، بل لكل السلع والمنتجات الصهيونية القادمة من داخل الكيان إلى مناطق السلطة .
9. وعلى أهمية ما سبق ، فإن الانتفاضة وإن كانت شرارتها قد بدأت على خلفية الاعتداءات والاستباحات الصهيونية للمسجد الأقصى . فإن إغفال بقية العناوين الوطنية الفلسطينية ، إنما يشكل خطورة حقيقية على تلك العناوين ، والتي يقع في أولوياتها حق عودة شعبنا إلى دياره التي طرد منها في العام 1948 .
في الأهداف
حتى الآن لم تُظّهر الانتفاضة أهدافها التي تعمل على تحقيقها ، وهذا لا يعود إلى قصورٍ في وعي الشباب الفلسطيني المنتفض في الساحات والشوارع يواجه الاحتلال ومستوطنيه . بل إن من يرسم ويحدد الأهداف هي القيادة التي تمثل المرجعية الوطنية لهذه الانتفاضة ، التي لم تتشكل بعد . وبناءاً عليه يجب أن تتحلى الفصائل بالكثير من الموضوعية ، أي في عدم تحميل الانتفاضة أكثر مما تتحمل ، وإرهاقها بأعباء ومهمات كبرى ، لا زالت أصلاً الفصائل تمثل بالنسبة إليها إشكالية حقيقية في تحديد أولويات الصراع مع العدو وعناوينه . خصوصاً أن هناك من يطرح مهمات ويحدد أهداف للانتفاضة أراها كبيرة على الانتفاضة التي مضى عليها ما يقرب من الشهر والنصف ، وهذه هداف والمهمات تمحورت حول إنهاء الاحتلال ومستوطناته وطردهم من الضفة ، وتحرير القدس والمسجد الأقصى ورفع الحصار عن قطاع غزة ، ولربما يُضاف إليها إعادة بناء ما دمره الاحتلال في قطاع .
إن التطيير في طرح الأهداف بهذه الطريقة من شأنه أن يضع الانتفاضة وأبنائها في مواجهة الجدار ، وذلك بسبب أن الأهداف لا ترفع أو توضع على خلفية إسقاط للتمنيات ، وإن كانت مشروعة ، بل نحن جميعاً في قوى المقاومة نؤكد أن فلسطين كل فلسطين هي وطن الشعب الفلسطيني وحده . ولكن تلك الأهداف من مسؤولية القيادة الوطنية الموحدة إذا ما شُكلت ، والتي يلزمها أو ممرها الإلزامي هي إنهاء الانقسام وتحقيق المصالحة ، وهذا من الواضح أفقه حتى الآن مغلق .
ورغم ذلك من الممكن أن تعمل الانتفاضة على أهداف مثل منع التقسيم الزماني والمكاني للمسجد الأقصى ووقف اقتحامات المستوطنين له ، واستعادة الأراضي المصادرة ووقف الاستيطان . وهي قد حققت أهداف خلال شهرها الأول ذكرناها في تأثيراتها " الإسرائيلية " ، ونزيد عليها أن مجرد استمرار الانتفاضة ، وفشل الأجهزة الأمنية الصهيونية في قدرتها على قمع الانتفاضة وإجهاضها ، هو انتصار للمنتفضين وتعتبر خطوة هامة على طريق تحقيق الأهداف الوطنية الكبرى .
الإجراءات القمعية الصهيونية
في الأصل الكيان الصهيوني ، بأجهزته الأمنية لم تتوقف عن إجراءاتها العقابية ، وممارساتها القمعية بحق الشعب الفلسطيني ونشطائه وقياداته . وهو لا يحتاج إلى أية مبررات أو مسوغات حتى يُقدم الاحتلال على التصعيد من أساليبه العقابية ، وهي في حالة تصاعدية حتى ما قبل اندلاع الانتفاضة الثالثة ، والتي اتخذت في مواجهة المنتفضين أشكالها الردعية من وجهة النظر " الإسرائيلية " ، والتي اتخذت أشكال متعددة :-
1. احتجاز جثامين الشهداء الذين ينفذون أعمال الطعن والدهس . ومعلومات عن سرقة أعضاء من جثامين الشهداء .
2. هدم منازل عائلات منفذي عمليات المقاومة سواء في القدس أو الضفة الغربية .
3. الاعتقال الإداري للنشطاء في الميادين ، أو على مواقع التواصل الاجتماعي . وقد اعتقلت قوات الاحتلال الطفلة المقدسية ( تمارا أبو لبن ) على خلفية كتابتها على صفحتها عبارة " سامحوني إذا زّعلت أحد " .
4. السجن وإطلاق النار بحق كل من يقذف قوات الاحتلال بالحجارة .
5. تشريع إطلاق النار الحي والمطاطي باتجاه الشبان المنتفضين في القدس والضفة والقطاع .
6. حجز ومصادرة البطاقات الزرقاء من عائلات منفذي العمليات ، وتهديدهم بالإبعاد .
7. تشجيع قطعان المستوطنين في مهاجمة منازل الفلسطينيين ، والاعتداء عليهم ، واستباحة المسجد الأقصى من قبل حكومة نتنياهو .
رامز مصطفى