ثمانون فيروز

بقلم: زاهي وهبي

هل ظلَّ ما لم يُكتَب عن فيروز وصوتها السماوي؟

ثمانون عاماً و "السيدة" هنا، معنا وبيننا، لم تغادر، لم تهاجر، لم تبحث عن وطن بديل، ولا عن جواز سفر آخر. صار صوتها وطناً وجوازَ سفرٍ إلى عالم من البهاء والتجلي وتأشيرة إقامة في الأعالي حتى كاد يقارب حدود الأسطورة.

زمن الطفولة - ثمة أطيافٌ عالقة منه في الذاكرة - كان صوتها ملء القرى والسفوح والكروم، ينهض الناس إلى حقولهم وينهض الصوت معهم، يغدو ماء سلسبيلاً يغسل وجوههم وقلوبهم، ويبث فيهم كثيراً من الإشراق والأمل. أذكرني فتى في أول الحُبّ، أتحلّق وأترابي حول أوراق التبغ المقطوفة خضراء طازجة "نشكُّها" في خيطان تصير صنادل تُعلَّق تحت شمس الفلاحين مصدراً لِعيشهم الكريم ولقمتهم الحلال وخبزهم كفاف يومهم. يهتف القلبُ طريَّ العود كلما لاحت ابتسامة يقطفها من محيا، ولا يحظى بكتف يسند إليها رأسه الملتهب عشقاً غير صوتها الآتي غمامةً من حنان وسكَّر: على جسر اللوزية، تحت وراق الفَيِّة، هبّ الغربي وطاب النوم، وأخدتني الغفوية... ويأخذنا الصوت إلى براري المتعة وسهوب الخدر اللذيذ الناعم، يأخذنا مثل أخ أكبر أو صديق صدوق، يمسك بأيدينا الصغيرة المرتعشة، يربت على أكتافنا، يضيء أمامنا طريق الدوخة المشتهاة.

يدوّخنا صوتها. بلى يفعل، مرةً وكنا مراهقين ممتلئين شغفاً وحماسةً ورغباتٍ بتغيير العالم، لعبنا "الروليت الروسية" سكارى بخمرة صوتها، ترَّفقَ الله بِنَا ونجونا. ليس هيناً ولا قليلاً أن يحملك صوتٌ بشريٌّ أبعد من الزمان والمكان، تنتشي به كأنه خمرة معتقة فيحط بك على سحاب وشعاع وضبابة، يجول دروباً غير معبدة وحقولاً غير مكتشفة ويوقظ بين المفاصل جياداً غير مروَّضة.

زمن الحرب، وما أقساه، ظلَّ صوتها رفيق الليالي الموحشة والصباحات المرتجفة، ولأن فيضه أكثر من جغرافيا "الوطن الصغير"، تقاسمَه المتحاربون على ضفتين، تسمعه في الخندق وفي الذي يقابله، وكلٌّ يحسبه له وناطقاً باسمه، وهو في عليائه فائض على الكل وللكل. شمسٌ في البرد والصقيع، وفَيءُ المتعَبين وقمرُ العاشقين، وفي الحرب والليالي المثقوبة بأزيز الرصاص أنيسُ الخائفين كأنه حِرْز أو تميمة. بثقةٍ يمكننا القول إن اللبنانيين حفظوا لصاحبة الصوت المترامي بقاءها بينهم في السنوات العجاف، هي التي لو أرادت لَفُتِحت لها العواصم والمدائن ولاقاها الناس أنّى كانوا بالأهازيج وأناشيد الاستقبال، لكنها اختارت الإقامة في القلوب.

لو أن للصوت لوناً لكان صوتها قوسَ قزح، بل قوسَ فرح. صوتٌ يبثّ ذبذباته المُفرِحة وشحناته الإيجابية حتى في حال غنائه الفراق والاشتياق واللوعة والأسى، فيه من الشموخ والكبرياء والأنفة حتى حين غنائه الانكسار والفقدان واللوعة: لِبيروت، مجدٌ من رماد لِبيروت (...) أزهرت جراحُ شعبي أزهرت، دمعةُ الأمهات، أنتِ بيروت لي، آه عانقيني. الصوتُ الذي غنى العواصم والمدن فجعلها أجمل وأرحب وأكثر حرية وأخوّة (مكة، القدس، دمشق، عمَّان، بغداد...) ظلَّ مثابةَ عاصمة للعشاق والمتعَبين والحالمين، ومدينة عائمة على أثير الغناء.

ثمانون فيروز، وكأنها لا تزال شابةً تغني للشباب، تساهرهم، تسامرهم، تشاركهم الضحكة واللهفة والأشواق المستبدة واللامبالاة أحياناً: بتمرق ما تمرق مش فارقة معاي. اقتربت أكثر من الشباب في تجاربها الجريئة مع زياد الرحباني فبدت لينة مطواعة ومغامرة شجاعة حتى غدت حقاً أيقونة لأجيال متعاقبة من أسرى الصوت وعشّاق سيدته الذين لا يرجون تحرراً من سطوته بل يحلّقون معه في فضاءِ حرية لا متناهية.

في ثمانينها لا بأس من القول إنها جعلت حياتنا أخفّ وطأة.

زاهي وهبي