إنتفاضة القدس .. اللوحة الإنسانية والحاضنة الشعبية

بقلم: جبريل عودة

وتستمر إنتفاضة القدس ويؤكد شبابها بدمائهم الطاهرة , على إستمراريتها في مواجهة الصلف والغطرسة الصهيونية والإنحياز الأميركي السافر, مع كل يوم يتجدد الفعل الإنتفاضي والذي يبدد أحلام الصهاينة , بأن هجمتهم الشرسة وقمعهم الإرهابي سيوقف هذه المسيرة الوطنية الظافرة ,وتزهر إنتفاضة القدس في كل صباح عن لوحة من الإعجاز النضالي ,تبهر المتابعين الذين يعجزون عن فك رموزها الفلسطينية العريقة, والتي تتشكل من مزيج رائع لمكونات المخزون الثوري الفلسطيني الذي لا ينضب, بل يتجدد في كل المناسبات الفلسطينية والمحطات التاريخية الفاصلة , ويبقى شعبنا مستودع للوفاء والتضحية , ومثالاً حياً لنماذج الفداء للأوطان والمبادئ , ولو كلف ذلك إفناء الروح أو الجرح أو الأسر , فأن تلك الجراحات التي تصيب النفس والجسد , بمثابة الزاد الذي يصل بأجيالنا الفلسطينية نحو الكرامة والتحرر والإنعتاق من الإحتلال الصهيوني , وإزالة الظلم التاريخي الواقع على شعبنا وأرضنا الحبيبة .

يبكي الحرف وتدمع الكلمات حين نتحدث عن شهداؤنا في إنتفاضة القدس , وقد رسموا جرحاً عميقاَ لن يدمل إلا بهزيمة المحتلة وطرده من أرضنا , من بين ثنايا الأحداث المتلاحقة على أرض فلسطين , وتعاقب الأخبار العاجلة وتسارع العمليات البطولية , وتنوع منفذيها ما بين شبان وفتيات , من وراء ذلك تتشكل لوحة وطنية زاهية حزينة معتزة فخورة , باكية منتصرة بدموعها صامدة متمسكة بثوابتها , لوحة إنسانية فدائية لوحة منتفضة, وكأنها نبضات كهربائية تعيد للقلب دقاته , وتكتب للضمير الإنساني أن هنا في فلسطين شعبٌ يعشق الحياة ويصنعها من بين الموت الذي يحاصره ببنادق المحتلين .

وحكايات الشهداء تروي لنا تفاصيل أعمق ترسخ مبدأ رفض التعايش مع المحتل الذي يروج له البعض , وتؤكد على ضرورة العمل على إزاله الإحتلال بالكفاح المسلح , فهذا العدو لا تردعه الا لغة القوة , حكاية فادي علون شهيد الفجر في قدس الأقداس الذي تربى بعيداً عن أمه التي منعها الإحتلال من العودة للقدس بعد سفرها لأهلها في الأردن , وتربى الشهيد في حضن والده وبرعاية عمته , فأي ظلم هذا إبعاد الأم وإستشهاد الإبن ؟ ! الشهيد محمود سعيد عليان 20 عاماً من بلدة عناتا شمال القدس المحتلة ولقد انتظرت والدته 30 عاماً لإنجابه , وهو وحيد أمه تربى يتيماً بعد وفاة والده في صغره , وهل نقبل مساومة على هذه الدماء الغالية ؟ ! الشهيد معتز زواهرة من مخيم الدهيشة ببيت لحم كان لاعب كرة قدم شاب مقبل على الحياة , تمكن من الإقامة في فرنسا الا أن الشوق والحنين للوطن إنتزعه من باريس ليرتقي شهيدا برصاص الإحتلال , لن نبيع تلك الدماء بالهدوء فالغضب يغلي في القلوب ؟! الشهيدة الطفلة هديل عواد من مخيم قلنديا شمال القدس المحتلة , كانت تحلم أن تكون طبيبة وهي المتفوقة بدراستها إلا أن إستشهاده أخيها محمود ترك أثراً كبيراً في نفسها حتى لحقت به شهيدة برصاص الجنود والمستوطنين في عملية إعدام ميداني , هذا ثأرنا قائم لن نغمد له السيف وسنعجل له بالقصاص , الشهيد إبراهيم سمير إبراهيم إسكافي 22 سنة من مدينة الخليل الثائرة , كان يملك محل حلاقة ويجهز نفسه للزواج , فأقدم الشهيد على تنفيذ عملية دهس على مدخل الخليل , فأوقع قتلى وجرحى في صفوف جنود الإحتلال , هل بعد ذلك تضحية وفداء ؟! الشهيدة رشا عويسي 23 عامًا من مدينة قلقيلية، كانت تجهز نفسها لتزف لخطيبها خلال شهر ,الا أن إجرام المحتل ضد المسجد الأقصى والإعدامات الميدانية , وضعها أمام خيارات عدة فكان خيارها الإنتقام لقضيتها والثأر لشعبها , ولعل وصيتها لأهلها تبوح بذلك حيث قالت فيها "سلكت هذا الطريق بكامل وعيي دفاعًا عن وطني والشباب والبنات، لم أعد أحتمل ما أرى، ما أعرفه هو أنني لم أعد أحتمل " , هذه حرائرنا تصيغ بالدم إستراتيجية المواجهة حتى التحرير, الشهيد فادي الخصيب من قرية عارورة شمال رام الله يلحق بأخيه الشهيد شادي بعد خمسة أيام من إستشهاده , وعلى نفس الحاجز الصهيوني وربما برصاص نفس الجنود الذي أطلقوا الرصاص على أخيه شادي , في إمعان صهيوني على القتل والإجرام بحق شبابنا الفلسطيني , والشهيد أحمد طه منفذ عملية الطعن والتي قتل في جندي صهيوني في مغتصبة مودعين قرب رام الله, هو يتيم ويعيل أسرته إلا أن ظلم المحتل الصهيوني , لم يترك لشبابنا أي مجال للتفكير بمقاومة الإحتلال دفاعاً عن المقدسات والوطن, وكذلك الفتاة حلوة حمامرة من قرية حوسان قرب بيت لحم , هي متزوجة وأم لطفين أخرجها ظلم الإحتلال للثأر لشعبها بسكين مطبخها , والشاب محمد الحروب منفذ عملية عتصيون يملك محل لبيع الذهب في العيزرية ,إشترى بندقية عوزي بماله الخاص لرد على جرائم الإحتلال ومستوطنيه ضد أهل الخليل فأوقع فيهم القتلى والجرحى على مفترق مجمع عتصيون الإستيطاني شمال الخليل .

وخلف هؤلاء الأبطال عائلات مؤمنة ملتزمة بالوطن وتحريره ,تربي أبنائها على حب الأقصى وفلسطين, تصنع في بيوتها جيش التحرير القادم , وترسم في تربيتها المنزلية خريطة الوطن بلا نقصان , مطرزة في قلوب الأطفال كأحلى نقش وأجمل صورة , وتغني الأمهات لصغارها في سرير النوم عن بطولات الأجداد وسعيهم للدفاع عن الأرض وبطولات الأباء في مقاومة المحتل ,هذه إذاعاتنا بعيداً على قرارات ما يسمى بوقف التحريض التي يفرضها الأمريكي عبر إتصال هاتفي !, وتحكي لنا الجدات قصص الصمود في قرانا وبلداتنا في مواجهة العصابات الصهيونية ,وكيف إرتكبوا المجازر والذبح لتهجير الفلسطينيين وسرقة أرضهم ,هذه هي مناهجنا الوطنية في بيوتنا التي لن تصل لها إتفاقياتهم الملعونة , التي تحاول إعادة تكوين العقلية الفلسطينية بما يتناسب مع مخطط سرقة الوطن وشرعنته لصالح الكيان الصهيوني .

في البيت الذي أخرج الشهيد خالد جوابرة من مخيم الفوار بالخليل ,وقفت ربة هذا البيت شامخة في جنازته , وهي تنادي بتحرير فلسطين من المية إلى المية , ورسالتها أن أبناؤنا غاليين علينا ,ولن نترك أن يذهب دمائهم سدى , بل ثمن تلك الدماء سيكون تحرير فلسطين كاملة , هو ذاته البيت الفلسطيني المقاوم الذي تخرج منه البطل محمد الحروب منفذ عملية عتصيون , فلقد جاوبت أم محمد الحروب الضابط الصهيوني الذي إقتحم بيتها "ابني محمد بطل ورفع رأسنا فوق , وسيخرج من سجنه زي الأبطال اللي نفذوا عمليات من قبله وتحرروا من السجن , وعندما أراد الإعتداء عليها قالت له إرفع أيديك أم البطل ما حدا بضربها , وكذلك هي القلعة الفلسطينية التي أنبتت الزهرة أشرقت قطناني في مخيم عسكر بنابلس , وكيف أن والدها قال بكل جراءة إبنتي أشرقت خرجت لتنفيذ عملية لقتل المحتلين على حاجز حواره , وهذه السكين هي سكين مطبخنا , وأنا فخور بإبنتي وبعملها المقاوم .

هنا يتضح أن تلك الإنتفاضة لديها الحاضنة الشعبية ,اللازمة لإستمرارها والجاهزة للدفاع عنها في مواجهة مؤامرات الإستهداف والإجهاض , وأن شعبيتها من عوامل ديمومتها , وأن الفعل الثوري المتزايد عبر عملية الدعس والطعن يشكل إستعداداً لما حول قادم ,وأن الإنتفاضة تأخذ مداها الطبيعي نحو التطور المتصاعد في الكم والكيف , لن يستطيع الإحتلال أن يتغلب عليها أو يوقفها بقمعه .

الشبان الأبطال المنتفضين وخاصة منفذي العمليات الفردية لم يخرجوا عبثاً أو لعباً , بكل كان الهم الوطني يملئ قلوبهم وعقولهم , فلم يعد أمامهم إلا خيار مقاومة الجلاد والإنتفاض في وجه المحتلين , والدفاع عن الأقصى وفلسطين بأرواحهم ودمائهم, وهذا ما يعزز إيمان الجماهير الفلسطينية بأن الإنتفاضة هي السلاح وأن إستمرارها واجب على الكل الفلسطيني حفاظاً على وصايا الشهداء وإستكمالاً لمسيرة التحرير بإذن الله .

بقلم/ جبريل عوده