حول زيارة البابا تواضروس للقدس

بقلم: جواد بولس

 

أثارت زيارة البابا تواضروس الثاني، بابا الإسكندرية والكرازة المرقسية، إلى القدس، في الأسبوع الماضي، حراكًا إعلاميًا متواضعًا وسجالًا برزت معالمه، بشكل أساسي، في مواقع التواصل الاجتماعي، وفي الصحافة المصرية، وهو بكل تجلّياته لم يشذ عن سيناريوهات الماضي المتشابهة التي بقيت على طيّاتها، رغم مرور العقود واختلاف النجّارين والعقد!
فمن عارض الزيارة التجأ إلى ضرورة التمسّك بالموقف التقليدي الرافض للتطبيع العربي مع إسرائيل، ومن برّرها وقبلها لم يعتبرها خطوةً تطبيعية، بسبب ما ساقه البابا والمتحدثون باسم الكنسية القبطية، كمعطيات وضرورات حتّمت مشاركة الوفد الكنسي في جنازة أحد أعمدة هذه الكنيسة في الشرق، الأنبا إبراهام، الذي شغل منصب مطران القدس والشرق الأدنى، لمدة جاوزت العقدين من الزمن، عرفته فيها المدينة، كشخصيّة جليلة وإنسان صالح أحب الناس فبادلوه الحب والتقدير.
لن يعترض أحد على حق المنتقدين الغيورين على مصلحة فلسطين أو المدفوعين بمشاعر قومية عربية، من أن يناقشوا هذا القرار أو ذاك، لاسيّما إذا كانت على رأسه شخصية بمقام البابا تواضروس الثاني، وفي مكانته المحلية والعالمية، ولكن يجب ألا ينسى هؤلاء، أن الرئاسة الروحية للكنيسة القبطية هي التي بادرت عام 1980، إلى إعلان موقف واضح تبنّت من خلاله ضرورة عدم التطبيع مع الاحتلال الاسرائيلي، ودعت أتباعها في مصر إلى التوقف عن زيارة الأراضي الفلسطينية المقدسة، حتى لو كان ذلك يعني حرمانهم من أداء فريضة الحج إلى أقدس مقدساتهم على وجه المعمورة.
لم يكن، برأيي، البابا تواضرس والناطقون باسم الكنسية القبطية، بحاجة إلى ذلك الخطاب التبريري والدفاعي، حين اجتهدوا وشرحوا وكرروا، أن الوفد الكنسي سيصل إلى القدس في مهمة إنسانية وللمشاركة في وداع رفيقهم في الإيمان، وهي لذلك ليست زيارة رسمية، كما قالوا، ولا يمكن اعتبارها تطبيعًا، وأكدوا أن الكنيسة القبطية ما زالت على موقفها المعلن منذ عام 1980 من عهد البابا الراحل شنودة.
كتبنا في الماضي كثيرًا حول قضية التطبيع وما تستثيره من أزمات ولغط لم يعالج بمساطر مسؤولة وموضوعية، وقلنا إن الاستبقاء على هذه المسألة وكأنها "مفهوم" بديهي ومطلق، و"حالة" واضحة ليست بحاجة إلى تفكيك أو تدقيق مجدّد أو تنظير، يؤدي عمليًا إلى خلط ما هو في صالح الأهداف المرتجاة من المناداة لعدم التطبيع، وما يضر بهذه الأهداف؛ فالضبابية القائمة، منذ نكسة العرب الوسطى، ما فتئت تزوّد المغرضين بفرص الاستفتان، وتتيح للمزايدين هوامش مظللة لتفريغ نزواتهم والتستير على عقمهم في زوايا هذه التعميمات الملتبسة والصراخ الكاذب.
لن تنجح مقالة أسبوعية بوضع مسح شامل لهذه المسألة، ولا دراسة وافية ينبش فيها الباحثون عن جذور المطالبة بوقف التطبيع مع إسرائيل المحتلة، ويضعون تقييمات معرفية، بعيدة عن التسطيح أو الإغراض أو الانتقائية، ويستعرضون الوسائل التي اعتمدت على مر العقود، والمناهج التي أقرّت، إذا أقرت! والإنجازات التي تحققت، والخسائر التي منيت بها إسرائيل وكيف يجب أن يستمر منع التطبيع ومن يحظره ومن يجيزه، وما إلى ذلك من أسس لا يمكن بدونها أن نأمن الخسارة أو ندرأ بؤس الانتحار؛ فأنا أتصوّر أن قضية التطبيع، كما مارسها العرب، من قادة ومؤسسات وشعوب، على مرّ السنين، كانت على الأغلب، مجرد انصياع أعمى لصرخة منفلتة من أمّة عاجزة "استضبعها" منُجز المشروع الصهيوني منذ بداياته، فخرّت كقطعان تائهة وهرولت قاصرة، بين أنظمة حكم استبدادية وانقلابات عسكرية أو قبلية ولّدت أحلامًا مخصية، أفضت إلى ما نراه اليوم من مشاهد فرقة دموية وسطوة الخناجر وعربدة البارود.
وبعيدًا عن قضية التطبيع بمفاهيمها العامة، فلقد كان عصيًا عليّ أن أفهم من هاجموا البابا بسبب زيارته للقدس، وليس فقط للأسباب التي قدمها السادة الأجلاء كمبررات لتلك الزيارة، إنما كممارسة حق لهم ولجميع المسيحيين العرب، الذين يرغبون لأسباب ايمانية ودينية، بأداء فريضة الحج في القدس وبيت لحم وغيرها من أماكن مقدسة في ديانتهم، والتي تحظى باجماع مسيحي وبمكانة فريدة ومميزة في قلوب المؤمنين، ولا مثيل لها أو بديلًا عنها في العالم.
رحم الله البابا شنودة، ففي إحدى خزائن صالوني ما زلت أحتفظ وأعرض مسبحة فضيةً أهدانيها يوم تشرفت بزيارة مقرّه في القاهرة في الثامن عشر من ديسمبر عام 1998. كنت برفقة صاحب الرؤيا والمواقف النبيلة القائد فيصل الحسيني، الذي قرر زيارة البابا شنوده وحثه على ضرورة استثمار الكنيسة القبطية في بعض قطع الأرض غير المستغلة في القدس، التي يخاف على مصادرتها من قبل ماكنة البلع الاسرائيلية، وحثه كذلك،على ضرورة فتح باب الحجيج المصري إلى القدس، لما في ذلك من منافع اقتصادية وسياسية وتثبيت للوجود الفلسطيني المهدد بشكل كبير وملموس. كانت الجلسة في حضرة البابا ممتعة وطويلة، ففيصل أحب البابا وثمّن مواقفه السياسية، واحترمه كانسان موسوعي كبير وفذ، وبالمقابل عبّر البابا عن عشقه للقدس ولفلسطين وعن تقديره الكبير لفيصل، لكنه، وبمنتهى الدماثة والكياسة، اعتذر عن تلبية ما طلبه الفيصل، ووجهنا إلى ساسة مصر في ذلك الزمن، بعد أن أفهمنا أن الكنيسة القبطية محرجة في هذه المسألة وواقعة تحت طائل المزايدة القومية والطعن في هويتها الوطنية المصرية العربية، وهي لذلك ليست بحاجة إلى هذه المجازفة، وطلب أن نحاول مع من بيدهم مفاتيح القرار، فزرنا رجل الأعمال نجيب ساويرس، وبعده قابلنا المستشار أسامه الباز وانتهينا عند من كان وزير خارجية مصر، عمرو موسى .
بعد عامين من تلك الزيارة رحل فيصل الحسيني، مرّت الأعوام والتطبيع، بمفاهيمه المجزوءة والمفروضة والملتبسة، ما زال سيّدًا ومرهِبًا، وإسرائيل تمضي في غيّها وزيّها وتعرف الفارق بين التراب والسراب، بينما تنفلق القدس كنواة مشمشة مستكاوية وتنكمش في الليالي، حتى أصبحت أصغر من نجمة وأبهم من فكرة. لقد فهمنا أن الأصل في المسألة والمنطق في النداء الأول بعد الهزيمة، استهدف معاقبة إسرائيل المعتدية وحجب الإفادة عنها كدولة مارقة ومعربدة، يجب ألا تقطف ثمار خطاياها واحتلالها لأرض العرب، فبعد أن كانت الصرخة: قطّعوها، صارت في اليوم السابع: قاطعوها! هكذا أسعفت الحيلة قبل حوالي الخمسين عامًا، حين كانت إسرائيل مزعومة وفتيّة، وللعرب دول وقادة وجامعة، واليوم.. من سيقيّم لنا، نحن الفلسطينيين، ما معنى التطبيع وما هي مصالح فلسطين الوطنية؟ وهل نترك ذلك ليفعله باسمنا مهزومون في أوطان مهزومة، أو ناصحون من مجتمعات مأزومة؟
فأحبونا يا عرب قليلًا، لأننا بحاجة إلى بعض الورد، بعد أن أهلكتنا ضمات الدببة ورقصات القرود الجائعة، وأبهجونا، يا بشر، قليلًا، فكم نشتاق إلى قُبلات السحر بعد أن خنقتنا دموع التماسيح وأدخنة المحارق، وأسعفونا، يا عجم، قليلًا، برباعيات خيّامكم، فعسانا نستر صفحات صدورنا العارية، أو ربما، اتركونا جميعكم، فنحن أدرى بطريق آلامنا ودروب آمالنا.
لقد كشفت مجددًا زيارة البابا تواضروس الثاني عورة مفهوم التطبيع وتصدعه، وأظهرت حاجتنا، أكثر من أي وقت مضى، إلى إعادة تعريف ما لم يكن معرّفًا من أصله، وإلى الضرورة لإعلاء صرخة القدس ووجعها فهي تنادي: تعالوا إلي، تعالوا إلى بطن الحصان، فأنا لست طروادة ولا أسطورة، تعالوا ولا ترموني بقبلات شهواتكم المنفية، تعالو وناموا على صدري لينبلج صباحكم ويسيل حليبي على جباهكم المتشققة المنسية، تعالوا وادخلوني، فأنا غمدكم الزاهي، ولا تخافوا، فمن دخلني حرًا أخرجته حرًّا وسيّدا كالنور، تعالوا فأنا ما زلت عروستكم ولا تستسلموا لما تقوله الشعراء، تعالوا إليّ، يا أحرار العالم، فربعي ما زالوا يعشقون الصحراء ورائحة الوأد في ساعات الشفق.
وأخيرًا، أهلًا بك، أيها البابا الجليل في القدس، فبحضورك، أنت وصحبك، كان للصباح فيها عطر زهي وضّاء، وطعم يشبه طعم الخلاص والحرية؛ بحضوركم أعدتم للقدس نقطةً من البهاء، حاول ويحاول الغزاة إطفاءه في كل يوم وليل.
فعد إليها متى تشاء ولا تعتذر.

٭ كاتب فلسطيني

جواد بولس