قلنا دوما أن استعادة الثقة أصعب من بناء الثقة. لأن بناء الثقة هي تجربة أولى عليك أن تخوضها دون رواسب الماضي، وأخطاء الفكر والسلوك، أخطاء الأقوال والأفعال. إن ما نحتاجه اليوم من كل قياداتنا وفضائلنا خطاب إعلامي وسياسي جديد يجمع بين القول والفعل، بين الرؤية والرسالة وتحديد الهدف، بين التكامل والتراكم في الإنجازات. لقد جاء سلام فياض إلى غزة دون أن يعي أن عليه مواجهة خطاب استعادة الثقة. جاء إلى غزة وهو يعتقد أنه يخاطب اليوم والغد، دون أن يدرك أنه لن ينجو من مخاطبة الأمس لأن الأمس لم ينته بل هو لا زال قائم. جاء إلى غزة وهو يعتقد أن صفحة الانقسام قد طويت وأننا قد تجاوزنا الانقسام منذ عشرات السنين دون أن يدري بان كل تفاصيل الحياة اليومية في غزة هي انعكاس للانقسام. فالانقسام لا يزال في كل بيت فقد شهيداً في الأحداث المؤسفة في حزيران 2007م، والانقسام في كل بيت يعيش فيه موظف يتلقى راتبه دون أن يذهب كل يوم إلى عمله سواء أكان عسكرياً أو مدنيا، والذين تم أخرجهم على المعاش فعلياً بعد أن تم إجبارهم على الجلوس في البيوت، وتلقي الراتب آخر الشهر. الانقسام ماثلاً في كل ما نعانيه من حصار في كل مناحي الحياة، وتحول غزة إلى سجن كبير، الانقسام ماثلاً في أربعين ألف موظف تم إضافتهم حزبياً إلى مواقع شُغرت بسبب الانقسام، وأصبحوا لا يتلقون راتباً. الانقسام موجود في كل بيت من خلال آلاف الخرجين من دون عمل. الانقسام قائماً في علاقاتنا الاجتماعية حتى في الزواج والطلاق، في علاقات الجيران والأقارب، في الوزارات وقاعات المحاكم ومركز الشرطة. ويأتي لنا فياض للحديث في الإطار القيادي الموحد للفصائل. لم يعد الشعب مهتما بذلك سيادة الدكتور فياض. الشعب منشغل بجراح معيشته اليومية، منشغلاً بفتح المعابر، منشغلاً بمشكلة الكهرباء، منشغلاً بنسبة الطلاق التي ارتفعت في السنوات الأخيرة، منشغلاً بوظائف لخريجيه بعد أن أغلقت سلطة رام الله الوظائف عن غزة، وبعد أن وظفت سلطة غزة أبنائها على أساس الولاء والبراء. غزة مشغولة بارتفاع نسبة مرضى السرطان والحصوات والكلى، غزة منشغلة بالبحث عن قطرة ماء نقية، وخضروات بلا مبيدات حشرية مسرطنة، غزة منشغلة بفقرائها وكثرة من يتسولون من النساء والأطفال. غزة منشغلة ببطء حالة الأعمار، حيث يحتاج ذلك لعقود من الزمن بسبب سياسات الاحتلال. غزة منشغلة بانقلاب الجوار والأشقاء عليها، وترك نباح كلابهم الإعلامية على قضيتها وعلى أقصاها وعلى مقاومتها. غزة منشغلة بما يضخ على حدودها من مياه مالحة تدمر التربة والزراعة وتسرطن طعامنا وشرابنا. هذه هي غزة سلام فياض الذي أتيت لها وأنت تلوك الكلمات في فيك بدبلوماسية السياسي وليس بضمير الأكاديمي. غزة بحاجة إلى كل أبنائها من أكاديميين ومهنيين وليس فقط لسياسيين يتقنون فن النفاق. لقد شغلت نفسك وحكومتك لسنوات في بناء المؤسسات في الضفة استجابة لمؤسسات البنك الدولي والأمم المتحدة والرباعية المنافقة فماذا كانت النتيجة، هل نجحت في تحصيل دولة في الواقع، لقد وظفت حكومتك للأجندة الدولية ولم تتفرغ لمعالجة الأهم وهو تحقيق الوحدة الوطنية، وإعادة اللحمة للشعب الفلسطيني في شطري الوطن. لقد كانت فترة حكمك نموذجاً للاستكانة للمجتمع الدولي المنافق، وتركت مهامك الأساسية تجاه الوطن والثوابت الوطنية. لقد بحثت في تلك الفترة عن دولة بدون غزة. وتعود الآن للنفاق السياسي بالكتابة والقول إن غزة هي الطريق للدولة. لقد أبكت سياستك كل بيت في غزة حصارا وقطع رواتب وتأتي الآن للتنظير لمقال كتبته أنت قبل شهر تقول فيه " وداعاً للبكائيات". كيف يكون هناك وداع للبكاء والجرح في كل بيت لم يزل ينزف. كيف تطلب من مريض تفشى الانقسام في جسده جروحا وآلاما أن يتوقف ويودع البكاء. هل تم إنهاء الانقسام، ومعالجة تقرح الجروح الوطنية حتى نقول وداعا للبكائيات. خطابك في الكومودور لم يكن سوى خطاب أجوف، لم يضف جديد. فقد أتيت لتلميع شخصك لا تقديم الحلول. أتيت لكي تبحث عن مستقبل في غزة، وهي أصلا بلا مستقبل بسبب أداؤك وسياستك. قد لا تكون أنت صانع القرار في كل ما حدث حتى نكون موضوعيين، وقد لا تكون أنت من قام بالانقلاب، ولكن حتى لو كنت تنفيذياً خلال فترة حكمك فإن اللوم سوف يطولك لأنك كنت أداة لصانعي القرار المحليين والدوليين. لقد أدرت ظهرك لغزة طيلة سنوات حكمك، وتأتي الآن لترسم مستقبلك في غزة. هل أتيت لغزة وهي لا تزال تئن تحت ضربات الانقسام وسطوة الواقع القائم لتجدد طموحاتك السياسية. هل أتيت لغزة لتعمق الانقسام والجراح. اعتقد أن عليك أن تعيد قراءة ما فعلت ثانية. فيا أخي أن استعادة الثقة يتطلب الكثير وليس مجرد كلام هزيل لاكته شفتيك ولا يداوي الجراح ويشفي العليل. يبدو أنك لم تدرك أن غزة دوما كانت وستظل أكبر من مساحتها، وأن أهلها لا يشبعهم الكلام المعسول. فهم يعيشون على شاطئ البحر، ألا تفهم ماذا يعني ذلك. يعني ذلك أنهم تعودوا أن يذهبوا للبحر مرارا ويعودوا عطشانين من خطابات القادة ونفاق الساسة. اعتقد أنك قد رأيت وأدركت أن غزة كانت مقبرة لأحلامك وطموحاتك ورسوماتك المستقبلية. لقد أتيت لغزة كجزء من الأعيب السياسية، وخلط الأوراق. واعتقد أن غزة بعد زيارتها قد خلطت أوراقك من جديد
بقلم أ. د. خالد محمد صافي