يتـــــساءل السياسيون والمحللـــون والمفكرون بعد 28 عـــــــام من انطلاقــــــة حـــمـــــاس، وبعد 10 سنوات من الحكم، وبعد سبعة أعوام من عدوان الفرقان وأربعة أعوام من وفاء الأحرار وثلاث أعوام من حجارة السجيل وعام من العصف المأكول عن حسابات حماس؟
تقف حماس في ديسمبر 2015م على ذكرى انطلاقتها 28 حين أطلقت مشروعها المقاوم للاحتلال بكل عنفوان مع نهاية عام 1987م وتحديداً مع انطلاق انتفاضة الحجارة. وخلال 28 عاماً تدرجت حماس في العمل المقاوم للاحتلال من ثورة الحجارة والمسيرات الشعبية إلى ثورة السكاكين إلى العمل الفدائي العسكري إلى العمل الاستشهادي إلى تشكيل جيش القسام وخوض ملاحم قتالية خالدة في مواجهة الاحتلال، وكانت مرحلة تأسيس السلطة المخاض العسير للعلاقة الوطنية مع حماس والتي مثلت فيها انتفاضة الأقصى الانفراج في العلاقة ليندرج الجميع في هبة مسلحة انتهت بانسحاب الاحتلال من قطاع غزة. وقعت حماس كحركة مقاومة لحصار سياسي عربي ودولي بشكل قاطع بعد انتخابات 2006م التي مثلت نتائجها العلامة الفارقة التي مثلت النافذة التي أطلت حماس منها على العالم وسُمع صوتها السياسي على نطاق متباين.
وكان المطلوب من حماس وما زال أن تكون في الحظيرة الدولية عبر الاعتراف بالاحتلال والالتزام بالاتفاقات ونبذ الإرهاب (المقاومة). ولمَّا أبت حماس ذلك اعتبرها أوصياء الاحتلال والمنظومة الدولية أنها تغرد خارج السرب فكان الحصار الممتد إلى لحظتنا وإن اعتراه فترات جزر وفقاً لتغيرات المشهد السياسي (حكومة الوحدة الوطنية)، أو معطيات الموقف الإقليمي والدولي (الربيع العربي)، أو مستجدات الموقف الميداني، أو فترات مد تم التعبير عنه بشكل همجي في عدوان الفرقان 2008/2009م ثم كانت ملحمة وفاء الأحرار "حجارة السجيل"، وأخيراً "العصف المأكول" إشراقة أمل على طريق التحرير الكامل.
وفي ظل الحصار كان الموقف العربي والإسلامي الذي ينبغي أن يمثل حالة إسناد للشعب الفلسطيني المحاصر موقفاً ضعيفاً باهتاً متردداً، بل إن مواقف بعض الدول العربية شكل انتكاسة بالتواطؤ والتخاذل والسعي الحثيث لإسقاط حماس وإلغاء الديمقراطية الفلسطينية الواعدة، ومثلت المظلة العربية (جامعة الدول العربية) والمظلة الإسلامية (منظمة المؤتمر الإسلامي) هذه المواقف الباهتة بشكلها الرسمي وكانت جزء من المنظومة الغير قادرة على الدفاع عن جزء أصيل من مسئولياتها الإنسانية والأخلاقية والقومية والإسلامية، إلى حين انتصر الشعب الفلسطيني بإرادته المستمدة من المعية الإلهية رغم حالة تواطؤ عربي غير مسبوق مع الاحتلال.
كان هناك موقف لآحاد الدول العربية والإسلامية فيه مراعاة لفلسطين القضية والشعب، وتجاوباً مع حماس التي اكتسبت الشرعية الانتخابية وشرعية المقاومة في تمثيل الشعب الفلسطيني في الداخل (على الأقل) عبر بوابة الانتخابات دون أن يرقى هذا الموقف أو ذاك إلى مستوى التحدي المأمول والذي يقدم وجهة نظر أخرى خارج سرب ما يُسمى " الشرعية الدولية"، حتى كان الربيع العربي رغم ما يعاني من آلام مخاض عسير سيزهر في القدس تحريراً، ومن ملامح ذلك مواقف شعبية داعمة وقليل من الرسمي لغزة العزة والتي تنتظر المزيد من أمتها.
تصارع حماس بجهد الغريق للنجاة في مواجهة حصار دائم وعدوان متكرر مما ساهم في إشغال حماس قليلاً عن ملفاتها الرئيسية وعلى رأسها المقاومة والعمليات الفدائية النوعية التي تربك حسابات العدو وفي المقابل لم يكن هناك استسلام للحصار ولا للإدارة الأمريكية الظالمة، وكان جهد متواصل من داخل فلسطين وخارجها عبر منظومة التأثير الدولي والإسلامي التي ساهمت في تخفيف الحصار فكانت قوافل كسر الحصار الإنسانية، وكان الاجتهاد في ابتكار إبداعات جديدة ساهمت في تحويل الحصار إلى لعنة تطارد المحتلين ووصمة عار في جبين الإنسانية، وكانت الأنفاق الاقتصادية بين قطاع غزة ومصر عامل رئيس في كسر شوكة الحصار رغماً عن المُحاصِرين حتى تفتقت عقلية التواطؤ عن إغراق حدود غزة، وكانت إرادة الصمود والثبات تقف خلف هذه الحالة المتقدمة من المقاومة والنموذج الحي من إرادة الحياة التي تنتصر على إرادة الموت والجلاد، ومن هنا كان الصمود كذلك في وجه الآلة الطاغية الإسرائيلية المدمرة في عدوان متكرر طال الحجر والشجر والبشر ليرسل رسالة ذات دلالة بليغة في التشبث بالمواقف والتعالي على الجراح ومواصلة المسير.
حماس في حكم قطاع غزة سعت إلى بناء مجتمع المودة والوئام، وقدمت في سبيل ذلك جهد كبير أبرزه حملات المودة، وحملة حج مبرور، وحملات المصالحة الداخلية، وحملة كرامة المواطن وحملة شركاء في النصر، كما سعت إلى بناء مجتمع الأمان، حيث واجهت التخابر مع الاحتلال بحملات، وكذلك واجهت المخدرات عبر جهد متواصل، كل ذلك يحتاج إلى مزيد من التركيز والتخطيط المسبق والتقييم الدائم والشامل. وصاحب ذلك جهد مُحاصَر في مشروع نهضة ينمو بصعوبة لعوامل ذاتية ومعوقات موضوعية وصعوبات وتحديات خارجية، فكانت هناك نواة بذرة تقاوم، ونواة لإعمار رغم الحصار، وتضامن خارجي شعبي ومؤسسي مفيد، ولكن مطلوب أن يتحول من تضامن إغاثي محض إلى تضامن سياسي ومشروع بناء وتنمية رائد.
وما يحسب لحماس استقلالية قرارها رغم شيء من شبهة يثيره البعض علاقاتها مع الجميع مفتوحة على قاعدة خدمة القضية والشعب الفلسطيني من أي طرف بعيداً عن الاشتراطات وارتهان المواقف، ومن اللافت أن حماس أغلقت الباب أمام أي مشروع للتشيع في الميدان الذي تشرف عليه، فكانت سياسة حماس واضحة راسخة "لا تدخل في الساحات الخارجية"، "ولا معركة بعيداً عن مواجهة الاحتلال"، ومن خلال تاريخ مليء بالتضحية خاصة نموذج جيل القيادة الشهيد حظيت حماس باحتضان شعبي تجسد في عدوان الفرقان وحجارة السجيل ووفاء الأحرار والعصف المأكول مع عمق انتماء من أبنائها وإعادة الاعتبار للعمق العربي والإسلامي والدولي للقضية، وما صاحب قيادة حماس من حكمة في إدارة الصراع مع الاحتلال.
يبدو للواهم أن حماس تفقد الخيارات، مع العلم أن الاحتلال ومن وقف معه هم الذين يفقدون الخيارات خاصة بعد تلاشي حل الدولتين وانهيار مسار التسوية والذي يمضي إلى موت محتوم إلا إذا ذهب البعض إلى صفقة مسمومة جديدة. حماس اليوم متجذرة في الأرض الفلسطينية بعيداً عن الإملاءات والاشتراطات والارتهانات رغم المقاطعة الدولية انتصر الشعب الفلسطيني على الحصار، ومن يزر غزة اليوم يدرك ذلك جيداً وقدمت بقليل من الإمكانات وكثير من الصعوبات والمعوقات نموذجاً للعمل الوطني الفلسطيني، واستطاعت بناء شيء من الحياة في غزة الجريحة التي غدت قبلة الأحرار في العالم ومرفأ الظامئين إلى النموذج الذي يقول (لا) للظلم والظالمين، ولا يمنع هذا الحديث عن تجاوز فردي في بعض المرافق والمفاصل، الأمر الذي يحتاج إلى معالجات فورية حكيمة تحافظ على النموذج وترتقي بالأداء.
وأمام حماس الكثير من الخيارات اليوم، فأمامها السعي لتعميق المصالحة الوطنية عملياً على الأرض وفي الضفة التي تنهض وتبدأ انتفاضة ثالثة على حماس أن تكون وقودها وقيادتها، وترتيب البيت الداخلي الفلسطيني عبر إعادة بناء منظمة التحرير على أساس الشراكة الوطنية وإعادة تشكيل حكومة الوحدة الوطنية على أساس من برنامج سياسي مشترك متفق عليه، ويندرج ضمن ذلك إصلاح المنظومة الأمنية على أساس من المهنية، وفي ذات السياق يستمر العمل على إنهاء الحصار بكافة أشكاله، ومن ذلك الحصار السياسي مع استمرار تحمل المسئولية الإنسانية والاقتصادية عن الشعب الفلسطيني المُحاصَر، وتحميل المسئولية الإنسانية كذلك للاحتلال والإدارة الأمريكية المُحاصِرين للشعب الفلسطيني وما يترتب على ذلك من معارك قانونية وسياسية تسعى إلى نزع الشرعية عن الاحتلال وكشف السوءة لمن يتواطأ مع الحصار ويتعاون مع المحتل، وما يحتاجه ذلك إلى إبداع جديد واتساع لجبهة المواجهة وقدرة على التحشيد والبناء في ذات الوقت، وفي هذا السياق تبدو المقاومة الورقة الأقوى في يد حماس وإن تنوعت أشكال المقاومة بين الضفة وغزة ومناطق 48 والخارج، فكلٌ يقاوم على قاعدة إدارة الصراع ووفق منظور المصالح والمفاسد.
وتبدو المعركة الإعلامية التي تخوضها حماس الأشد شراسة, وينبغي أن تكون مهنية وشفافة في المرحلة القادمة خاصة في ظل تطور وسائل الإعلام وسيادة الإعلام الجديد، والتحشيد السياسي فلسطينياً وعربياً وإسلامياً سيحتاج جهد خاص في المرحلة القادمة، ويمتد العمل الإعلامي ليستهدف إحداث حالة انهيار لمشروع التنسيق الأمني في الضفة الغربية عبر سياسة الفضح الإعلامي وكشف الحقائق والحديث الرصين واعتماد المعلومات وفضح الأسماء التي تقف خلف هذا التنسيق القاتل للشعب والقضية.
وعلى صعيد إعلامي آخر، فإن معركة كشف السوءة " لِيَسُوؤُواْ وُجُوهَكُمْ " [الإسراء : 7] مستعرة ويجب أن تتوسع إعلامياً لتدخل مساحات دولية جديدة، ومن هنا فإن العمل على إعداد الخطاب السياسي الناضج بلغة يفهمها العالم مع اعتماد لقنوات حوار وخطاب جديدة وبلغات العالم المتنوعة خاصة اللغة الإنجليزية سيسمح بصناعة الرأي العام المؤيد للحق الفلسطيني والمؤمن بأن الاحتلال هو مصدر الشرور والإزعاج في العالم، وقد يقود ذلك إلى محاكمة قانونية للقتلة في أكثر من مكان في العالم.
ويتوج هذه المعركة الإعلامية إجابة على سؤال لماذا حماس دخلت السلطة؟ وكيف أنها من خلالها عززت الحقوق وأعادت تعريف القضية ومنعت حالة الانزلاق المأفون إلى مربعات تنازل جديدة؟. ومن هنا فإن صناعة رأي عام فلسطيني وعربي ودولي باتجاه خلق قناعات جديدة ترسخ حماس عنواناً للمرحلة ونموذجاً للثبات ليس رغبة في كرسي ولا رهبة من سجون واستشهاد وملاحقة، وإنما لأن المقاومة عناوينها كثيرة ومساحات العمل فيها متنوعة خاصة بعد اندحار الاحتلال من قطاع غزة، مع ضرورة إدراك حماس أنها ليست اللاعب الوحيد، ومن هنا فإن عليها فهم المنظومة الدولية والإقليمية والقدرة على إدارة التوازن في العلاقات البينية بعيداً عن الاستعداء أو الاستقواء.
مع الحذر من استمرار رغبة بعض الأطراف في توريط حماس سياسياً في مربع التنازل الحقيقي عن القضية عبر الاشتراطات والإملاءات والحصارات والضغوطات والترغيبات والعدوان، وقد بدا واضحاً أن حماس في هذا الإطار ناضجة سياسياً إلى الدرجة التي استعصت فيها على رغبات الإسقاط والتشويه السياسي التي قادتها الإدارة الأمريكية والاحتلال وبعض الأذناب في محاولة لإسقاط حماس ومشروعها المقاوم بل وتقدمت في مشروع التحرير.
كما وينبغي على حماس الانتباه جيداً إلى بقاء البوصلة صوب القدس ومنحها أولوية قصوى، ومواجهة مشروع الاستيطان السرطاني المستشري في القدس والضفة الغربية، وملاحقة مشروع يهودية الدولة عبر كافة السبل، وتحشيد الأمة العربية والإسلامية لهذا الهدف النبيل، كما أن ملاحقة مشاريع التسوية والتصفية تُعتبر أولوية في ظل حالة التهالك العربي الرسمي عبر كشف المؤامرات شعبياً وتصفيتها سياسياً وإعلامياً عبر ملاحقة مشاريع التهافت بالفضح. وكذلك محاصرة المشروع المُدرج على الطاولة اليوم "الدولة ذات الحدود المؤقتة" حتى لا يصبح واقعاً وتصبح "دولة الضفدع" هي الحدود النهائية لدولة فلسطينية وظيفية، ومن هنا فإن حماس تنتظرها مهمة إستراتيجية في القضاء على نظرية العمل السياسي الفلسطيني دون مرجعيات كما يحدث الآن، والطريق لذلك إعادة بناء منظمة التحرير والسلطة الوطنية على أسس وطنية تمثيلية حقيقية للشعب الفلسطيني في الداخل والخارج.
وفي هذا الإطار، تبدو المعركة السياسية متجلية بكافة أشكالها، وعلى حماس أن تخوضها بمزيد من الحكمة والصبر والإعداد، فجولة العدوان في الرصاص المصبوب وعامود السحاب والجرف الصامد لن تكون الأخيرة في ظل معارك تتجلى فصولها تباعاً لترسم المشهد الأخير في صدوع الحق ورفع الظلم واندحار الاحتلال، كما ان معركة الحصار ليست الأخيرة طالما لم تُغيب حماس عن المشهد السياسي أو أن يتم طحنها في عجلات عملية التسوية عبر إدراجها في هذه العملية السرابية.
إن مهمة فضح السياسة الأمريكية في إدارة الملف الفلسطيني كمسكن للملفات الأخرى يمكن ان يؤدي إلى تخفيف الضغط عن حماس التي ترغب أمريكا في ضربها دون أن يؤثر ذلك على الملفات الأخرى، أو على علاقتها مع العالم الإسلامي وهذه تمثل معضلة، لذا فإن إستراتيجية نزع الذرائع قد تكون مجدية ولعله من هنا تأتي الإستراتيجية الأمريكية في إحداث اختراق في الملف الفلسطيني وإن كان نتنياهو ما زال يمنع هذا الاختراق الأمريكي بالتعنت والعناد، ويبدو ضعف أوباما بيّناً في عدم القدرة على فرض الرؤية الأمريكية على الاحتلال.
ومن هنا فإن إدارة العلاقة مع الساحة الأوروبية تكتسب زخماً إضافياً وما يُعاب على حماس في هذا الشأن ترقبها مبادرات الآخرين (في أوروبا وغيرها) كي تبدأ بنسج علاقات دولية، والمطلوب مبادرة لإقامة علاقات مع أوروبا تحول التراخي الأوروبي والارتهان للموقف الأمريكي إلى موقف. والتمثيل الذي تحظاه حماس عبر الجاليات المسلمة والعربية في أوروبا وغيرها يؤهلها إلى تطوير العلاقة مع أوروبا والقوى الدولية، ولا ضير أن تكون هذه العلاقة غير معلن عنها أو تتم بشكل غير رسمي عبر مؤسسات المجتمع المدني كمرحلة أولى، ولعل هذا سيكون مشجعاً للخروج العربي الرسمي عن حال البرود الجامد والضعف المرتهن والترقب القاتل لوجهة النظر الأمريكية. ومن هنا فإن هذه مساحة عمل كبير يمكن عبرها تواجد حماس سياسياً في الساحات العربية والإسلامية عبر فعاليات وزيارات وبرامج عمل ولا ضير كذلك أن يكون ذلك عبر مؤسسات المجتمع المدني من أجل صناعة اللوبي المؤيد للقضية في كل ساحة وعلى كل ميدان.
جسدت حماس خلال مسيرة 28 عاماً رؤية جديدة حكيمة للعمل الفلسطيني المقاوم السياسي بوصلتها القدس والمسجد الأقصى، ومتشبثة بحق العودة والإفراج عن الأسرى والدولة المستقلة على حدود 1967م، مقابل هدنة مع الاحتلال، وتسعى لإعادة بناء منظمة التحرير على أساس من التمثيل الحقيقي للشعب الفلسطيني، وتقبل بالعمل مع كافة القوى الفلسطينية على أساس من التداول السلمي للسلطة وعدم الارتهان للمواقف الأمريكية والإسرائيلية، وتوجَّت كل ذلك بتقديم نموذج من التضحية والفداء عبر قوافل من الشهداء والاستشهاديين والمعتقلين والجرحى والمبعدين وعلى رأسهم جيل القيادة الشهيد وانتفاضة الحجارة والأقصى والقدس وملاحم الفرقان ووفاء الأحرار وحجارة السجيل والعصف المأكول خير شهيد.
د. محمد إبراهيم المدهون
رئيس أكاديمية الإدارة والسياسة للدراسات العليا